من السفارة في فيتنام إلى الطائرة في أفغانستان، المشهد واحد. حلفاءٌ للولايات المتحدة الأميركية كانوا قد وعدوا بالدعم الكبير على كافة المستويات، ليتم التخلي عنهم لاحقاً والتنصل من كل الالتزامات التي قُدمت لهم والتي ظنوا أنهم حصلوا عليها حقاً مقابل أثمان كبيرة وصلت إلى حد بيع الأوطان.
اختلافٌ في الجغرافيا وتنوع في الأسماء والأديان والطوائف ولكن القصة واحدة: تحالف هش، ولاء مدفوع بالوهم، ثم انسحاب أمريكي مفاجئ يظهر الذل والتبعية بأبشع صورها.
وفي لبنان، يصرّ البعض اليوم على لعب الدور ذاته، دونما قراءة حكيمة للتاريخ الذي يعيد نفسه.
من سايغون الى كابول الصورة مكررة
في العام 1975، سقطت سايغون (كانت العاصمة السابقة لجمهورية فيتنام الجنوبية) لتعطي درساً ثقيلاً لحلفاء الأمريكيين، حيث أظهرت الصور أتباع واشنطن وهم يتدافعون لصعود الطائرات هرباً منها، بعدما هُزم الجيش الأميركي وهرب متخلياً عنهم.
من ظهروا في الصور يحاولون وقتها التعلق بالطائرة ليسوا مواطنين عاديين، بل سياسيين وجنرالات وأفرادًا كانوا يرددون طوال سنوات أن أمريكا لن تتركهم وهي الحليف الأقوى وأنها لن تتخلى عنهم ليتبين لاحقاً هشاشة هذا “التحالف” وأنه لا يشكّل غطاء لهؤلاء في أوقات الشدة، بل على العسكر فإنه عندما ترى الولايات المتحدة أن الكلفة أكبر من المصلحة، فهي ترمي هذا التحالف في سلة المهملات، وكأنه لم يكن.
وبعد العام 1975 وحين نسي البعض طريقة التعاطي الأميركي مع الحلفاء في فييتنام، جاء العام 2021 ليذكرهم، بل ليصبح المشهد أكثر إهانة وذلاً. انسحب الجيش الأميركي مجدداً لكن هذه المرة من أفغانستان بعد احتلال دام عشرين عاماً، دون إخبار حلفائه حتى، لنجدهم أي هؤلاء يحاولون التسلق والتشبث بطائرات الشحن الأميركية، يائسين في محاولة أخيرة للنجاة، وبعدها بأيام سقطت العاصمة كابول بيد طالبان وذهبت المليارات الأميركية سدى.
Total chaos at Hamid Karzai International Airport of #Kabul #Afghanishtan #Taliban pic.twitter.com/s6zI1hatTi
— Manish Shukla (@manishmedia) August 16, 2021
لكن، أين الجنرالات وأين السياسيون؟ أين الأبواق التي كانت تصدح ليل نهار دعماً لامريكا؟
ببساطة، لقد تم التخلي عنهم فهم مجرد أدوات لإتمام الأهداف المرتبطة بمرحلة محددة، وعند أفولها، تساقطوا في الهواء مع اقلاع الطائرات الأميركية، دون أن يشعر الأميركي بأي التزام اخلاقي ولا معنوي لحمايتهم.
حين تصبح السفارات مقر القرارات
هكذا يتعامل الأميركي مع اتباعه في كافة الدول: استدعاءاتٌ متكررة وتلبية مطالب دون نقاش. ما قام به الرئيس الأميركي دونالد ترامب مؤخراً مع بعض رؤساء الدول كزيلينسكي وملك الأردن وآخرهم نتنياهو يعكس جلياً هذا الأسلوب.
ماذا عن لبنان؟ بالنسبة للنموذج اللبناني، فإن دعوة بعض الوزراء اللبنانيين إلى السفارة الأميركية في بيروت للقاء نائبة المبعوث الخاص إلى الشرق الأوسط مورغان اورتاغوس تحولت إلى ظاهرة شبه اعتيادية، إذ إن هذه الزيارات لا تقتصر على البروتوكول، بل تتجاوزها إلى تنسيق مباشر في ملفات داخلية، من الاقتصاد إلى الأمن، حتى أن بعض الوزراء باتوا يتعاملون مع السفارة كأنها مركز قرار، يستطلعون منها المواقف قبل اتخاذ خطواتهم.
هذا الانكشاف لا يُلام عليه الأمريكيون، إذ بات بعض السياسيين يمنحونه الشرعية من خلال تبريره والتفاخر بالاتصالات التي أجروها ويجرونها مع واشنطن، أو بالزيارات التي قاموا بها، متناسين أن مثل هذه الأفعال تُفقدهم شرعيتهم الوطنية، وتضعهم في خانة الوكلاء لا أصحاب القرار.
السياديون الجدد
ما يميز بعض القوى المحلية في لبنان التي تعتبر نفسها سيادية، استسلامها التام أمام اميركا والغرب ليس فقط في الخطاب والمواقف بل حتى في التبعية والتنسيق.
في هذا السياق، تصبح بيانات السفارة الأمريكية في بيروت، أو تصريحات المسؤولين الأميركيين هي البوصلة التي يبنون عليها مواقفهم ونجد أسماءهم تتكرر باستمرار في الزيارات الرسمية والتسريبات بصفتها “شريكة” أو “صديقة” أو “حليفة”.
ومن الواضح أن هذه القوى تضع نفسها في مصاف الخط الأمامي للولايات المتحدة في لبنان، فتتبنى كل سرديات الأخيرة، وتردد كل مواقفها، وتُصعّد ضد خصومها المحليين خدمة لأجندة خارجية، متناسية أن الولاء للخارج لا يبني دولة، وأن السيادة لا تُصنع ولا تزداد مناعة إلا من داخل.
سيادة غب الطلب
المزعج في القوى التي تتبع الأجندة الأميركية في لبنان، هي أن السيادة عندها “غب الطلب”. تجدها تصرخ كلما ذُكرت المقاومة وسلاحها ويتواصل صراخها كلما صرح مسؤول ايراني حول لبنان، معتبرة تصريحه انتهاكاً صارخاً للسيادة مطالبة بفرض العقوبات واستدعاء السفراء وموجهة سهامها إلى كل من يخالفها في هذا الأداء.
يأتي ذلك بينما تتدخل واشنطن بوقاحة في القضاء والأمن والسياسة والاقتصاد وأمن المطار وسياسته ومصرف لبنان والانتخابات البلدية والنيابية، إضافة إلى تحديد من يجب أن يكون حليفاً للبنان ومن لا يجب.
كل هذا يبقى بالنسبة للسياديين امراً مشروعاً، لا يُمس ولا يُعلّق عليه.
وأما العدوان الاسرائيلي المستمر على جنوب لبنان وبقاعه وضاحية بيروت الجنوبية والانتهاكات اليومية بالمسيرات والتوغلات والاغتيالات وقتل المواطنين واستمرار الاحتلال ومنع الإعمار والتهديدات، فهذا كله لا يمسّ كرامتهم ولا سيادتهم المزعومة، بل وصلت بهم الأمور لتبرير هذا المشهد الأسود تحت شعارات مختلفة، لأن ذلك يخدم مصلحة امريكا.
ما يثير السخرية في هذا السياق هو ازدواجية الخطاب. فالقوى نفسها التي تصرخ “سيادة!” كلما ذُكر سلاح المقاومة، هي التي تفتخر علنًا بتلقي الدعم والتوجيه من الولايات المتحدة. يؤكد ذلك أن السيادة عندهم ليست مبدأ، بل أداة ضغط، تُستخدم حين تفيد وتُلقى جانبًا حين تتعارض مع الأجندة الأمريكية.
هذا النموذج من التبعية لطالما كان موجوداً عند حلفاء امريكا في لبنان ولكنه تطور مع الزمن ليصبح أكثر وقاحة وتبجحاً وجرأة، خصوصاً بعد العدوان الاسرائيلي الدموي الأخير والمتواصل حتى يومنا هذا. دور هؤلاء الأتباع لا يتغير: هم مجرد أدوات ضغط أمريكية ضد كل من لا يتفق مع الأخيرة وسياساتها الاستكبارية تحت شعار “التحرر من المحور” المزعوم.
قراءة التاريخ ليس بالأمر الصعب. من يقرأه جيداً يدرك أن الولايات المتحدة لا تبني دولاً بل تدير مصالحها فقط ببراغمتيتها الشهيرة. ومهما بدا الاستقواء بالولايات المتحدة مغرياً عند البعض فعليهم إعادة حساباتهم طالما أن الوقت لا زال متاحاً، وإلا فسيلقون مصير الأتباع في كابول وسايغون وغيرهم الكثير.
لبنان يحتاج إلى رجال دولة وأصحاب قرار يعرفون متى يقولون “لا لأمريكا” والغرب والعرب ايضاً. يحتاج إلى قادة يدركون معنى كلمة الأمن القومي ومصلحة الوطن قبل مصلحة الآخرين، وأن الاستقلال الحقيقي هو حين لا تكون أداة في المشروع الأمريكي.
يتكرر التاريخ في بيروت. هناك، لا تزال شخصيات سياسية وإعلامية ودبلوماسية وناشطون يصرون على التصعيد ضد المقاومة وشعب المقاومة وحتى ضد الخصوم السياسيين، معتقدين أن ذلك سيقابل بدعم غربي أمريكي مباشر. لكن الحقيقة هي أن امريكا والغرب لن يرسلوا جندياً واحداً لحمايتهم وعليهم أن ينظروا لما حدث في سايغون ومطار كابول بعين ثاقبة، فالدعم الأمريكي مشروط، متقلب، ومبني على المصلحة لا الوفاء. وإذا ما اقتضت التفاهمات الإقليمية أو الداخلية التضحية بالحلفاء المحليين، فلن تتردد واشنطن لحظة.
المصدر: موقع المنار