يقول العلماء إنهم اكتشفوا للمرة الأولى كيف استخدمت نملة طفيلية سلاحًا” كيميائيًا للسيطرة على عشّ نوع مختلف من النمل، عبر خداع العاملات لتنفيذ اغتيال غير متوقّع.
تتبدّى هذه الخطّة المميتة كأنّها مسرحيّة شكسبيريّة. ففي مستعمرة النمل، تكون الملكة على وشك الموت، بسبب مهاجمة بناتها لها. في هذه الأثناء، ينتظر العدو الحقيقي، ملكة غازية من نوع آخر من النمل، على الهامش. خطتها بسيطة: التسلّل إلى العش واستخدام أسلحة كيميائية تُصنّعها داخل جسمها بهدف خداع النمل العامل ليعتقد خطأً أن حاكمته الشرعية هي الدخيلة.
وخلال ساعات قليلة، ستسقط ملكة العِشّ. وبعد موت الملكة الأم، الحاكمة السابقة، ستتولى الغازية دور قائدة المستعمرة الجديدة.
إنّ قتل الملكة الأم في مستعمرة النمل ليس أمرًا غير مألوف، فهو يحدث عادة عندما تنتج المستعمرة ملكات عديدات، أو عندما تصل ملكة وحيدة إلى نهاية خصوبتها. لكن هذا السيناريو المحدّد، الذي تحوّل فيه ملكة دخيلة العاملات إلى قاتلات بالوكالة، لم يسبق وصفه بالتفصيل من قبل، وفق ما أفاد باحثون يوم الإثنين، في مجلة “Current Biology”.
في الواقع، لم توثّق هذه الاستراتيجية بعد عند أي نوع حيواني آخر، بحسب كبير مؤلفي الدراسة الدكتور كيزو تاكاسوكا، الأستاذ المساعد بقسم علم الأحياء في جامعة كيوشو باليابان.
وقال تاكاسوكا لـCNN: “لم يكن تحريض البنات على قتل أمهنّ البيولوجية معروفًا في علم الأحياء قبل هذا العمل”.
لاحظ الباحثون هذا السلوك بين النمل من جنس “Lasius”، ووثقوا غزوات وتلاعب الملكات بالعاملات في نوعي “L. orientalis” و”L. umbratus”.

وأوضح تاكاسوكا أنّ “دراسات سابقة أفادت أنه بعدما غزت ملكة جديدة من نوع ’L. umbratus‘ مستعمرة مضيفة من نوع ’L. niger‘، قتلت العاملات المضيفات ملكتها الخاصة، لكن الآلية ظّلت مجهولة تمامًا حتى دراستنا”.
رائحة النملة العاملة
يتواصل النمل من خلال الرائحة، وهي الطريقة التي يميز بها زملاءه في العش وأعداءه. عندما لاحظ الباحثون سابقًا ملكات النمل الطفيلية بالقرب من مسارات البحث عن الطعام الخاصة بالمستعمرة، رأوا أن الطفيلية كانت تخطف نملة عاملة وتفركها بجسدها، مموّهةً رائحتها، ما يسمح لها بالتسلّل إلى العش من دون أن يكتشفها أحد.
وفي الدراسة الجديدة، ربّى المؤلفان المشاركان تاكو شيمادا ويوجي تاناكا، عالمان من طوكيو، مستعمرة نمل وأدخلا عليها ملكات طفيلية. لاحظ شيمادا ملكة من نوع “L. orientalis” في مستعمرة من نوع “L. flavus”، وسجل تاناكا ملكة من نوع “L. umbratus” تغزو مستعمرة من نوع “L. japonicus”.
في التجربتين، أسكن العلماء أولاً ملكة غازية مع عاملات وشرانق مضيفة “حتى تكتسب رائحة زملاء العش”، وفق ما أوضح تاكاسوكا، مضيفًا أنّ هذا الأمر “سمح لها بالحصول على اعتراف من زملاء العش وتجنّب الانتقام عند الدخول”. ثم أطلق العلماء الملكة في المستعمرة.
لكن الملكتين الغازيتين لم تنوجدا هناك من أجل الطعام، فقد كان عليهما تدبير عملية اغتيال. بعدما حددت مكان الملكة المقيمة، رشّتها الغازية بسائل بطني تفوح منه رائحة حمض الفورميك. أثارت الرائحة العاملات، فانقلب بعضهن على ملكتهنّ على الفور وهاجمتها. وتوالت الرشات، وازدادت الهجمات شراسة.
أفاد العلماء: “شوّهت العاملات المضيفات في نهاية المطاف أمّهن الحقيقية بعد أربعة أيام”.
شأن عائلي
كان موت الملكة الحقيقية الإشارة للغازية حتى تبدأ بإنتاج مئات البيوض، وتعتني بها “بناتها” المتبناة حديثًا. ومع مرور الوقت، سيصل عدد بناتها البيولوجيات إلى الآلاف، فتستولي على المستعمرة حتى لا يبقى أحد من النوع الأصلي.
وعلّقت الدكتورة جيسيكا بورسيل، أستاذة بقسم علم الحشرات في جامعة كاليفورنيا، ريفرسايد: “من الرائع رؤية دراسة رصدية دقيقة للغاية تكتشف أمرًا مثيرًا للاهتمام، كنا، وأعني باحثي النمل، نشتبه به لكننا لم نؤكده أبدًا”.
وقالت بورسيل، غير المشاركة في البحث: “لقد أذهلني هذا الاكتشاف حقًا، لا سيّما استخدام مركب كيميائي لاستثارة هذا السلوك من قبل العاملات”.
تُجمّع الحشرات الاجتماعية مثل النمل، وتُخزّن الموارد لتتشاركها في المستعمرة، ما يجعلها هدفًا جذابًا للطفيليات الاجتماعية، وهي أنواع تبحث عن أعشاش جيدة التجهيز يمكنها استغلالها. تخطف بعض أنواع النمل ذرية المستعمرة وتستعبدهم. بينما تستقر أنواع أخرى، مثل “L. orientalis” و “L. umbratus”، في المستعمرة، حيث تقضي على الملكة الحالية وتحلّ مكانها.
ولفتت بورسيل في حديثها مع CNN: “هناك كل هذا التنوّع المذهل. ما لم نكن نعرفه كثيرًا قبل هذه الدراسة، الطرق المختلفة التي قد تتّبعها الملكات الطفيلية اجتماعيًا لاغتيال الملكة المضيفة. لقد أجرى الناس بعض الملاحظات على القتل المباشر حيث كانت الملكة المتسلّلة تذهب وتقطع رأس الملكة الحالية. لكن من المدهش أنها تستطيع في الواقع استخدام التلاعب الكيميائي لدفع العاملات إلى القيام بذلك”.
غالبًا ما تُصوِّر الحكايات الخرافية والأساطير العنف داخل العائلات، إذ يتآمر البالغون الأشرار، وهم عادة أهل يائسون أو زوجة أب أو زوج أم غيوران، لإيذاء الأطفال أو قتلهم. فسُجنت رابونزيل في برج، وطوردت بياض الثلج وسُمِّمت بتفاحة، وتُرِك هانسيل وغريتيل في الغابة لتأسرهما ساحرة تسجنهما وتسمِّن هانسيل استعدادًا لالتهامه.
لكن فيما تتضمن مثل هذه القصص الكثير من العنف، فإن قتل الأم في الفولكلور، ناهيك عن خداع الأطفال لقتل أمهاتهم، يكاد يكون منعدمًا، بحسب ما قالت الدكتورة ماريا تتار، الأستاذة الفخرية بقسم الفولكلور والأساطير في جامعة هارفارد، وغير المشاركة في الدراسة الجديدة.
وفي هذا الصدد، أشار تاكاسوكا إلى أن الحكاية القاتمة لملكات النمل الغازية والمتلاعبة تبرز أكثر، لافتًا إلى أنّ “الظواهر في الطبيعة تتجاوز مخيّلتنا”.
المصدر: سي ان ان
