الجمعة   
   07 11 2025   
   16 جمادى الأولى 1447   
   بيروت 16:40

الجيش اللبناني: لتعليق قرار حصرية السلاح؛ بين نار العدوان وضغط الانقسام عقيدةٌ راسخة لا تتزحزح

في خضم التصعيد “الإسرائيلي” المتواصل على الجنوب اللبناني، برز موقف قائد الجيش اللبناني باقتراح تجميد تطبيق خطة حصر السلاح جنوب الليطاني، كرسالة مزدوجة في الشكل والمضمون: الأولى موجهة إلى الداخل، مفادها أن المؤسسة العسكرية ترفض أن تتحول أداة صدام داخلي بين اللبنانيين، والثانية إلى الخارج، تؤكد أن الجيش اللبناني لا يمكن أن يُستدرج إلى وظيفة تخدم الأمن “الإسرائيلي” تحت غطاء “الشرعية الدولية”.

هذا الموقف، الذي جاء في لحظة حساسة، يُعيد التذكير بعقيدة الجيش الوطني الراسخة منذ تأسيسه: عداؤه لـ”إسرائيل” كعقيدة وليس كموقف ظرفي. فمنذ معارك 1948، إلى مواجهات 1978 و1982، وصولاً إلى حرب تموز 2006، لم يكن الجيش اللبناني يوماً جيشاً حيادياً في مواجهة الاعتداءات “الإسرائيلية”، بل جيشاً مقيد الإمكانات محروم التسليح، يُقاتل بما يملك ويصمد بما يستطيع، في ظل حصار غربي أميركي هدفه منع أي توازن ردعي بين لبنان والدولة العبرية.

إنّ اقتراح قائد الجيش تجميد الخطة لا يعني رفض مبدأ حصر السلاح بيد الدولة، بل هو قراءة واقعية لموازين القوى في الميدان، وإدراك عميق أن الوقت ليس مناسباً لتطبيق جزئي أو انتقائي لاستراتيجية دفاعية غائبة. فالمعركة اليوم ليست مع المقاومة بل مع عدوّ يخرق الأجواء يومياً ويعتدي على المدنيين والجيش معاً. وفي مثل هذه الظروف، لا يمكن أن يُطلب من الجيش اللبناني أن يُدير ظهره لجبهة الجنوب، ويستبدل مهمته الوطنية الكبرى بمواجهة “نصف الشعب اللبناني المقاوم”، كما يريد بعض المحرّضين في الإعلام والسياسة.

التهويل الإعلامي والحرب النفسية التي تشنها بعض الدوائر الغربية والعربية على الجيش ليست بريئة. فثمة محاولة منهجية لدفع لبنان نحو التخلي عن عناصر قوته، أي المقاومة والجيش معاً، تمهيداً لإعادة إنتاج معادلة “لبنان الضعيف” القابل للابتلاع أو للابتزاز. من هنا، يُفهم إصرار بعض الجهات الدولية على منع تسليح الجيش أو ربط أي مساعدة بشروط سياسية، أبرزها “ضبط سلاح المقاومة”، وكأن الأمن القومي اللبناني يمكن أن يُبنى على نزع القوة الوحيدة القادرة على ردع العدو.

لقد أثبتت التجارب التاريخية أن الجيش اللبناني كلما اقترب من خيار الاستقلال في قراره الوطني، تكاثرت عليه الضغوط. في حرب نهر البارد عام 2007 مثلاً، خاض الجيش معركة شرسة ضد الإرهاب رغم الحصار المالي والتسليحي المفروض عليه. وفي أحداث 17 تشرين 2019، حاول البعض جرّه إلى صدام داخلي لكنه تمسك بعقيدته ورفض أن يكون أداة قمع أو فتنة. واليوم، في الجنوب، يُعيد الجيش إنتاج ذات الموقف المبدئي: حماية الاستقرار دون التخلي عن العداء لـ”إسرائيل”.

اللافت أن رئاسة الجمهورية، ومعها قيادة الجيش، تتعاملان مع الملف بعقل بارد ومسؤولية عالية. فبين من يطالب بإشعال الجبهات وبين من يدعو إلى الاستسلام، اختارت القيادة الوسط الوطني: لا انجرار إلى معارك داخلية ولا انصياع أمام التهديدات “الإسرائيلية”. هذا التوازن الدقيق يُعبّر عن فهم استراتيجي لدور الجيش كـ”عمود فقري” لأي استراتيجية دفاعية متكاملة في المستقبل، شرط أن يُرفع عنه الحظر الغربي ويُسمح له بالحصول على منظومات دفاع جوي وصواريخ مضادة للدروع والطائرات من مصادر شرقية أو صديقة.

في المقابل، تُمارس “إسرائيل” ضغوطاً أمنية متزايدة عبر الاعتداءات المتكررة على مواقع الجيش ومراكز المراقبة في الجنوب، بهدف إحراجه أمام الرأي العام اللبناني ودفعه إلى الرد أو الصدام مع المقاومة. غير أن القيادة العسكرية تُدرك أن العدو يسعى لاستنزافها معنوياً وإعلامياً أكثر مما يسعى لمواجهة عسكرية مباشرة. لذلك، جاء الإقتراح بتجميد الخطة كخيار حكيم لتجنب “الكمين السياسي”، وحماية وحدة المؤسسة العسكرية من الانقسام أو الاستغلال.

وراء هذا الموقف، معلومات خاصة تفيد بأن ضباطاً كباراً حذروا في جلسات مغلقة من خطط “إسرائيلية” ـ غربية لإشعال الجنوب عبر وسطاء، بغية ضرب العلاقة بين الجيش والمقاومة. بعض التقارير الاستخبارية رُفعت إلى المراجع الرسمية اللبنانية تؤكد أن العدو رصد محاولات لبث الشائعات داخل الجيش حول “انحياز” بعض وحداته، في مسعى لتفكيك الثقة الداخلية. لكن العلاقة بقيت أقوى من أي تحريض إعلامي.

من هنا، لا يمكن قراءة موقف قائد الجيش بمعزل عن العقيدة الوطنية الجامعة التي ترى في “إسرائيل” عدواً دائماً، وفي وحدة السلاح الوطني والمقاوم شرطاً لحماية الكيان اللبناني. فالمؤسسة العسكرية لم تتخلَّ يوماً عن مبدأ “القتال دفاعاً عن الأرض”، لكنها تطالب منذ سنوات بسياسة دفاعية واضحة ترفع عنها العزلة وتمنحها الإمكانات.

ختاماً، إنّ التصميم على تجميد الخطة الآن ليس انسحاباً من المسؤولية بل تأكيد على أولوية المصلحة الوطنية العليا. فحين تُحاصر البلاد بين نيران الخارج وفتن الداخل، تبقى الحكمة العسكرية في التوقيت جزءاً من شجاعة القرار.
وإذا كانت بعض القوى تراهن على إنهاك الجيش أو تفكيكه، فإن الواقع يُثبت أن هذه المؤسسة ما زالت آخر ما تبقى من رموز الدولة الجامعة، وأشدها صلابة أمام العواصف.

بكلمة، الجيش اللبناني اليوم لا يقف على الحياد بين “إسرائيل” ولبنان، بل يقف في خندق الوطن، متسلحاً بعقيدته وعدالة قضيته، رافضاً أن يكون أداة في مشروع تفكيك الدولة. ومن يقرأ تاريخه يدرك أن هذا الجيش لم يكن يوماً جيش “الظروف”، بل جيش العقيدة… وجيش الصمود حتى النصر.


باحث في العلاقات الدولية

المصدر: بريد الموقع