16-04-2024 12:51 PM بتوقيت القدس المحتلة

الجذور التاريخية لظاهرة المقاتل الانتحاري

الجذور التاريخية لظاهرة المقاتل الانتحاري

القاضي الجبار شمشون بن منوح، الذي سلمه بنو إسرائيل إلى الفلسطينيين بعد أن أثارهم عليهم ليعاقبوه، ولكنه هدَّ معبد الإله داجون على نفسه وعلى أعدائه وآسريه الفلسطينيين، فقتل نفسه وأعداءه

إحدى العمليات الانتحارية في الضاحية الجنوبية لبيروتنجحت الميديا الغربية، وبخاصة تلك المعادية صراحة للعرب والمسلمين، في نشر وتكريس فرية مفادها أنّ العمليات المسلحة الانتحارية، هي اختراع عربي وإسلامي لا سابق له في التاريخ البشري.

المشتغلون في تعليب وتصنيع الرأي العام في الغرب عملوا طويلاً وبكثافة على هذه الثيمة مستفيدين من إنجازات التنظير الاستشراقي ذي النزعات العنصرية التقليدية، وخرجوا بالكثير من الاستنتاجات والخلاصات المؤسسة على هذه الأكذوبة التاريخية.

علاء اللامي/ جريدة الأخبار

من تلك الخلاصات قولهم، إنّ طبيعة الفرد العربي وخصوصية دينه الإسلام هي انتحارية وعنيفة وعدوانية بطبيعتها ومن حيث جوهرها؛ نفتح قوساً هنا لنسجل أن التناول الانتقائي الذي قامت به الأقلام السلفية الجهادية القديمة والمعاصرة لحيثيات عُنفية مجتزأة من التراث العربي الإسلامي العريض، لا يخلو من مثيلاتها أيّ تراث ديني آخر، وتحديداً من فترات التأسيس وقيام دولة النبوة في يثرب والمعارك الدفاعية التي خاضها المسلمون الأوائل بقيادة النبي العربي الكريم أو من فترات الهبوط الحضاري والحروب الأهلية والفتن التي حدثت في العالم الإسلامي لاحقاً؛ إن هذا التناول السلفي الانتقائي للحيثيات العُنفية ساهم بقوة في توسيع نطاق هذه الفرية وسهّل انتشارها وتصديقها.

واكب ذلك إغفال وتغييب الحيثيات والصفحات المعاكسة مضموناً، التي يحفل بها التراث الإسلامي المكتوب كأي تراث ماضوي. وهي صفحات لا يمكن حتى لأعداء العرب والمسلمين نكران أنها سلامية تشع بالتسامح والعطاء والبناء الحضاري الزاهر إلى جانب الصفحات الصعبة التي مرّ بها في أوقات الحروب والاضطرابات والفتن.

إن هذا الافتراء، أو الهراء غير العلمي، لا يقوله المتخصصون والمؤرخون الذين يحترمون أنفسهم وأقلامهم لأنهم يعرفون دقائق وحقائق التاريخ، بل يكرره الكتبة المأجورون وخبراء التضليل وغسل الأدمغة ضمن ما بات يُعرف بملفات وتمظهرات «الإسلاموفوبيا»، ويشاركهم في ترديده بعض من السذج والمغرضين من الكتبة والإعلاميين العرب. لتبديد ودحض هذه الفرية نورد أدناه جرداً تاريخياً مبتسراً حول موضوع «المقاتل الانتحاري» في التاريخ البشري:

الجبار شمشون بن منوحمعروف وعلى نطاق واسع أنّ أول حادثة حربية انتحارية في تاريخ الحروب التي دارت في التاريخ البشري هي تلك المسجلة باسم المقاتل الشعبي العبري، القاضي الجبار شمشون بن منوح، الذي سلمه بنو إسرائيل إلى الفلسطينيين بعد أن أثارهم عليهم ليعاقبوه، ولكنه هدَّ معبد الإله داجون على نفسه وعلى أعدائه وآسريه الفلسطينيين، فقتل نفسه وأعداءه (التوراة، العهد القديم، سفر القضاة، الاصحاحات 13 إلى 16. شاعت قصته في القرن 11 قبل ميلاد المسيح).

ولولا المسحة الأسطورية بل الخرافية لهذه الحادثة وبطلها (مثلاً، تروي التوراة في سِفر القضاة أنّ شمشون رمى الفلسطينيين بفك حمار ميت فقتل منهم ألف مقاتل!)، لكان ممكناً للمؤرخين أن يعتبروا شمشون العبري، قاتل الفلسطينيين، هو الأب الروحي والحربي لمن يقومون بالعمليات السلفية الانتحارية الفردية في عصرنا.

تاريخياً أيضاً، تسجل وقائع ومدونات الحروب الصليبية أنّ أول عملية انتحارية بوساطة آلة عسكرية مركبة، هي تلك التي قام بها بحارة محاربون صليبيون أثناء الحملة الصليبية الأولى في القرن الثاني عشر الميلادي ضد بلدان الشرق العربي الإسلامي. حدث ذلك حين قامت سفينة تحمل فرساناً من حركة مسلحة متعصبة دينياً تدعى «فرسان الهيكل» بعملية انتحارية استهدفت بها سفينة حربية للمسلمين واصطدمت بها، فأحرقتها وأغرقتها وقتل في هذه العملية من الصليبيين والمسلمين الكثيرون بينهم مئة وأربعون مقاتلاً من الصليبيين، وأكثر من هذا العدد من المسلمين.

أمثلة أخرى على العمليات الانتحارية سجل المؤرخون حدوثها خلال الحرب الفرنسية ـ الإسبانية (1785)، وخلال سنوات الحرب الأهلية في إسبانيا (1936 - 1939)، كما نعثر على أمثلة أخرى إبان مواجهة فلاحي فيتنام للمحتلين الفرنسيين التي توجت بمعركة قلعة «ديان بيان فو» عام 1954، التي هزمت فيها القوات الشيوعية بقيادة الجنرال جياب قوات الاستعمار الفرنسي هزيمة منكرة أنهت عهد الاستعمار الفرنسي لهذا البلد. علماً أن العمليات المشار إليها في هذه العناوين التاريخية هي في غالبيتها أقرب إلى عمليات اقتحام جريئة، مشروعة عسكرياً وأخلاقياً، أكثر من كونها عمليات انتحارية غادرة تستهدف طرفاً مدنياً أو عسكرياً ولكنها سجلت في التاريخ العسكري الرسمي كعمليات انتحارية.

ولكننا لا يمكن أنْ نحتسب ضمن هذا النوع من الفعل القتالي الانتحاري المستهدف والمؤذي أو القاتل للآخر تلك العمليات الانتحارية الجماعية التي كانت تحدّ من وصول المؤن والأسلحة إلى القوات الاستعمارية الإنكليزية في الهند، حين كانت مجموعات من مئات المتطوعين الانتحاريين العزل من السلاح تحتشد على سكك الحديد لإجبار القطارات المنطلقة بسرعة على التوقف، ذلك لأن مَن يقومون بها عُزّل من السلاح أولاً، ولأنهم يغامرون بأرواحهم هم ولا يؤذون أحداً غيرهم كالمقاتلين الانتحاريين قديماً وحديثاً.

بعمليات «الكاميكاز» اليابانيةمن أشهر العمليات الانتحارية وأخطرها على الإطلاق في العصر الحديث، ما عرف بعمليات «الكاميكاز» اليابانية التي اشتهرت خلال الحرب العالمية الثانية. و«الكاميكاز» عبارة يابانية مؤلفة من كلمتين تعنيان «الرياح المقدسة» أو «الرياح الإلهية». وتعود العبارة بجذورها التاريخية إلى حادثة حربية يختلط فيها ما هو أسطوري بما هو تاريخي واقعي. ففي القرن الثالث عشر الميلادي، وبالضبط في سنة 1281، غزا أسطول مغولي صيني بقيادة الإمبراطور قوبلاي خان أرخبيل الجزر اليابانية، ولكن إعصاراً قوياً ومدمراً هبّ آنذاك وأغرق الأسطول الصيني وأنقذ اليابان، فأعلن اليابانيون أنّ الآلهة هي التي أرسلت رياحاً مقدسة لإنقاذ اليابان وتدمير الأسطول المغولي. هذا بخصوص ظاهرة الفعل القتالي الانتحاري، ويقترب منه أحياناً ويتداخل معه فعل آخر هو تفخيخ العربات وتفجيرها بوساطة انتحاري يقودها، أو عن بعد بوساطة التوقيت، أو بجهاز التوجيه اللاسلكي، بهدف تدمير أهداف معادية عسكرية أو مدنية أو حتى مواطنين عاديين في الأسواق والشوارع وأماكن العبادة والمشافي... إلخ.

إن الميديا الغربية حاولت على الدوام إخفاء حقيقة أنّ هذا الأسلوب التدميري هو اختراع أميركي ثم إسرائيلي تاريخياً؛ فقد كانت أول عربة شاحنة مفخخة في التاريخ الحديث هي تلك المحملة بثلاثين كيلو غراماً من المتفجرات و 100 كيلوغرام من قطع الحديد، التي انفجرت بتاريخ 16 أيلول 1920 أمام مقر «جي بي مورجان» أو «مورجان هاوس» في شارع وول في نيوريوك فقتلت 38 شخصاً، وأصابت أكثر من 300 آخرين بجروح. أما العربة المفخخة الثانية، والتالية للأميركية تاريخياً، فقد فجرتها منظمة «ليحي» الصهيونية سنة 1948 في قلب مدينة يافا الفلسطينية وكانت ملغمة بعشرات الكيلو غرامات من المتفجرات، فقتلت وجرحت 140 شخصاً من الفلسطينيين العرب بينهم عشرات النساء والأطفال.

كما يمكن للراصد والمؤرخ إدراج العديد من العمليات الانتحارية التي قام بها مسلحو منظمة «نمور التاميل»، وخصوصا النساء المقاتلات من منظمة «الجبهة النسائية» في سريلانكا منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي. وفي الفترة ذاتها، وقعت أولى العمليات الانتحارية الكبرى في العالم العربي: فبتاريخ 23 تشرين الأول/ أكتوبر قاد مقاتلان انتحاريان من منظمة «الجهاد الإسلامي» الشيعية ـ والتي كان البعض يعتقد أنها اسم آخر لحزب الله في لبنان أو لمجموعة مسلحة انضمت لاحقاً إلى الحزب المذكور ـ شاحنتين مفخختين بالمواد شديدة الانفجار واقتحما مقرّي قيادة القوات الأميركية والفرنسية التي تولت احتلال العاصمة بيروت بعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي منها تحت اسم «قوات حفظ السلام الدولية».

وقد قتل في التفجيرين 241 عسكرياً أميركياً و56 عسكرياً فرنسياً إضافة إلى السائقين الانتحاريين. وتعدّ هذه العملية المزدوجة من أكبر وأهم العمليات الهجومية العسكرية في التاريخ لاعتبارات عدة: أولها، هو أعداد القتلى والجرحى الكبير من جنود العدو نتيجة لها ولم تماثلها أي عملية أخرى من هذه الناحية حتى اليوم. وثانيها، هو عدم إضرارها بالمدنيين المحليين، وثالثها تحقيقها لأهدافها السياسية الاستراتيجية، فقد هربت القوات الأميركية والفرنسية التي نجت من الموت إلى سفنها الحربية في عرض البحر وتحررت بيروت تماماً من الوجود العسكري الغربي.

غير أنّ هذا الإنجاز السياسي والعسكري الباهر الذي تمخضت عنه عمليتا بيروت، والذي لم يتكرر من حيث نتائجه منذ ذلك الحين، لا ينبغي أن يخلط الأوراق ويغري بتأييد مشروط أو استثنائي لهذا النوع من العمليات الانتحارية. فكل عمل قتالي انتحاري، فردياً كان أو جماعياً، ينبغي أن يبقى مرفوضاً ومحظوراً من الناحية الإنسانية والثورية والأخلاقية معاً. لقد توالت العمليات انتحارية لاحقاً ضد قوات الاحتلال الإسرائيلية التي كانت تحتل جنوب لبنان، وتكرر وقوعها بنجاحات محدودة وأحياناً دون نجاح يُذكر ولمجرد تسجيل الحضور الإعلامي من قبل بعض الفصائل والجماعات، حتى حلت الهزيمة بالاحتلال الإسرائيلي هناك، واندحر ذليلاً عن أرض الجنوب اللبناني لأول مرة في تاريخ العرب الحديث.

يمكن أن نسجّل أنّ العمليات الانتحارية لم تكن حكراً على المنظمات والجماعات المسلحة ذات المرجعيات والخلفيات الدينية والطائفية، السنية أو الشيعية، بل إن أحزاباً وجبهات قومية علمانية قامت ببعض منها لعل من أشهرها العملية المعروفة باسم «عروس الجنوب سناء محيدلي» وهي مقاتلة شابة من الحزب السوري القومي الاجتماعي، فجرت سيارتها المفخخة وسط تجمّع كبير لجنود وضباط جيش الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان.

أما الأحزاب والجماعات اليسارية الماركسية كالحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي (اللذين أسسا جبهة المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي للبنان) والجبهتين الفلسطينيتين، الشعبية والديموقراطية وغيرهما، فقد رفضت أو تحفظت على الأخذ بهذا الأسلوب القتالي مع أن هذه الجهات قامت بالعديد من العمليات الاقتحامية الشجاعة والتي قتل فيها بعض المهاجمين أو كلهم كعملية اقتحام «إذاعة الأمل». ففي شهر تشرين الأول من العام 1985 نفذ أربعة من مقاتلي الحزب الشيوعي اللبناني هجوما اقتحامياً ضد مبنى إذاعة «صوت الأمل» الناطقة باسم ميليشيات أنطوان لحد فدمروه وخاضوا معارك واسعة مع حراسه قبل أن يستشهدوا وهم: الياس حرب، ميشال صليبا، حسام حجازي وناصر خرفان.

عروسة الجنوب سناء محيدليكما يمكن أن نحتسب على هذا الغرار من العمليات التي تتوسط موضعاً وسطاً بين العمليات الانتحارية والاقتحامية ثلاث عمليات جرت خلال السنة ذاتها 1985 واحتسبت على ملاك العمليات الانتحارية « الاستشهادية» أولها العملية النوعية التي قامت بها المقاتلة الشيوعية لولا عبود والمتمثلة بزرع عبوة ناسفة عند مدخل موقع للعدو الإسرائيلي في القرية التي ولدت فيها «القرعون»، بغية تفجير رتل من الآليات وقُتلت أثناء العملية بعد أن تمكنت من القيام بالتفجير. والثانية هي التي قام بها مقاتل شيوعي لبناني آخر هو جمال ساطي والذي تمكن من تفجير مقر الحاكم العسكري في «نادي زغلة» وقُتل خلالها، والعملية الثالثة هي التي قامت بها المقاتلة الشيوعية وفاء نور الدين ضد دورية لجيش عميل إسرائيل لحد، وهي أقرب هذه العمليات الى العمليات التي سميناها انتحارية ويسميها المؤيدون لها «استشهادية».

وقد قام حزب العمال الكردستاني «في تركيا» بزعامة عبد الله أوجلان، الذي يحسب على اليسار الماركسي، وكانت بدايات نشاطه في سوريا ولبنان. فقد قام مقاتلوه بعمليات انتحارية عدة ضد القوات والأهداف التركية. أما في حرب أفغانستان، والتي بدأت في أواسط الثمانينيات فقد حدثت عمليات انتحارية عدة، مع أن بعض المتخصصين بالشؤون الأفغانية ينفون وقوع أية عمليات من هذا النوع طوال العامين الأولين من تلك الحرب. وبلغت هذه العمليات ذروتها في الهجمات الانتحارية التي قامت بها عناصر من تنظيم القاعدة داخل الولايات المتحدة نفسها، في ما عرف بهجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 الانتحارية. بعد هذا التاريخ، فتحت الباب على مصراعيه للقيام بالعمليات الانتحارية بأيدي ومفخخات السلفيين الانتحاريين، فلطخت يوميات الشعوب في العراق وسوريا وأفغانستان والباكستان ولبنان واليمن وغيرها بالدماء البريئة وما تزال تلطخها كل يوم وتلحق أفدح الضرر بالمسلمين والإسلام معاً.

موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه