25-04-2024 02:03 PM بتوقيت القدس المحتلة

من هوشي منه إلى السيد حسن نصرالله

من هوشي منه إلى السيد حسن نصرالله

عقل المقاومة في لبنان أكبر من كل الصغائر. عقل المقاومة يميز بين الميادين، فإن كان الميدان السوري يفرقهما لفترة مؤلمة وجارحة وثخينة وخطرة، فإن الميدان الفلسطيني يوحدهما ويعيد تصويب البوصلة.

القسام تبذل جهدها في معركتها ضد اسرائيل«حماس» إخوانية، ولكنها في الأساس فلسطينية. وفي الظن أن فلسطينيتها أقوى من إخوانيتها. الانتماء الأصلي هو إلى فلسطين، والهوية الدينية عابرة وتخضع لتحولات الواقع وظروف الاجتماع وتقلبات السياسة.

نصري الصايغ/ جريدة السفير

«حماس» الإخوانية قاتلت وتقاتل في فلسطين. لديها تراث من الشهداء بقامات قيادية، في سجلها تضحيات جليلة، وفي وقائع أزمنتها إنجازات باهرة، آخرها كان بحجم إخضاع إسرائيل كلها للخوف والهلع. مفاجآتها فوق كل توقع، ويشاركها في هذا التراث «الجهاد الإسلامي» وسائر الفصائل. وكما في لبنان، حدث في غزة. أجبرت المقاومة الفلسطينية، و«حماس» في مقدمتها، أرييل شارون، قائد الانتصارات الإسرائيلية على العرب (باستثناء لبنان طبعاً حيث هزم)، على تفكيك مستوطناته كلها، والانسحاب من قطاع غزة بالكامل، من دون قيد أو شرط.

«حماس» الإخوانية، شديدة الارتباط بالحركات الاخوانية في العالم. الربيع العربي الذي تحوَّل سريعاً إلى «ربيع إسلامي»، أغرى «حماس» بمغامرة، قدَّم فيها إخوانيته على فلسطينيته، فانتفخت بفوز «الإخوان» في مصر، وانصرفت عن دمشق وانتظمت في صفوف من يقاتل النظام، الذي حماها وحضنها وسلَّحها، لفلسطينيتها. تخلت عن نظام ديكتاتوري جازف من أجلها، والتحقت بمعارضة مصابة بأعراض ديكتاتورية أشد فظاعة. أخذتها «إخوانيتها» خارج فلسطين، فخسرت في مصر، بعد سراب الكسب، وانتحرت في سوريا بعد سراب الحكم الإسلامي.

«حماس» الاخوانية، الذراع الفلسطينية في الضفة والقطاع كانت قطعة من نسيج متين، حيك بالجهد والنضال والكفاح، يبدأ بفلسطين ويمر بلبنان المقاوم و«حزب الله» والنظام في سوريا وإيران. لعل المطلوب راهناً من «حماس» إعادة قراءة تحالفاتها، فبدلاً من الالتحاق بالحروب العبثية المذهبية والمنتشرة في المحيط المتاخم لفلسطين، عليها أن تصوِّب وجهة «الإخوان» ومن معهم، فتكون قبلتهم فلسطين. لأنها وحدها تجمع، بينما غيرها يفرِّق ويبدد ويدمر... والشواهد كثيرة. أبرزها هذا الركام العربي الذي صنعته مذاهب وطوائف وأعراق وأنظمة واستبداد ومشاريع خلافة متخلفة عن العصر، وعن السَّلف كذلك.

لا تعرف المسافة المتصلة أو الفاصلة بين «حزب الله» و«حماس»، في الظن، أن الروابط أشد متانة من الفواصل. تاريخ العلاقة، العلنية والسرية، لا يفضي إلى قطيعة. الخيارات المتناقضة، إقليمياً، وتحديداً في سوريا، يتغلب عليها الخيار الفلسطيني، إذ لا يتوقع أن تتناقض المقاومتان، هنا وهناك. ما بينهما فلسطينياً، تنسيقاً وأمناً وتسليحاً، لا تشطبه أحوال التحول في سوريا والتخندق هناك. النقيضان في سوريا، حليفان في فلسطين. وهذا من إبداعات الالتزام وصدق النضال. ففلسطين أولاً، والباقي ثانياً.

يتسرب هواء مغشوش بسبب التلوث المذهبي. يسر لك كثيرون عن تغيُّر في مزاج البيئتين الحاضنتين لكل من «حزب الله» و«حماس»، كأن يقال في أوساط شيعية «فلتسحب حماس مقاتليها من سوريا، قبل أن...». أو كأن يقال قول تبخيس لقوة «حماس» ومعاركها، حيث لا فضل لها إلا لمن صنع الصواريخ وهرّبها من إيران وسوريا إلى غزة. أقوال شماتة تحط من قيمة المقاومة الفلسطينية. كأن هناك مباراة أو مبارزة بين «حماس» و«حزب الله». وفي الظن أن القيادتين ليستا إلا عكس ما يُقال.

القسام تبذل جهدها في معركتها ضد اسرائيليتسرب هواء مغشوش بسبب الفتنة المذهبية ورياحها العابرة للكيانات والحدود، والمحتضنة من «سنة رسول» و«آل البيت» على طول القارة المشرقية. فتقول أصوات في البيئة السنية، «هكذا يكون القتال»، في مباهاة بقوة «حماس»، مع إغفال لقوة «الجهاد الإسلامي». أو كأن يقال: «انفضح الزيف، فهناك من يقاتل في فلسطين وهناك من انصرف عن فلسطين ومضى إلى سوريا لدعم النظام».

وفي ظن إيجابي يقترب من التوكيد، ان هذا الهواء المغشوش عابر، فإعلام المقاومة في لبنان فلسطيني، براً وبحراً وجواً. وهو فخور بإنجازات «حماس» وبمفاجآت جديدة تكبد إسرائيل خوفاً وشللاً واستغاثات.

عقل المقاومة في لبنان أكبر من كل الصغائر. عقل المقاومة يميز بين الميادين، فإن كان الميدان السوري يفرقهما لفترة مؤلمة وجارحة وثخينة وخطرة، فإن الميدان الفلسطيني يوحدهما ويعيد تصويب البوصلة. الرهان على النهايات العاقلة في سوريا يخدم الخيارات الأكيدة لكلا الطرفين.

ليس حتماً أن تتشابه المقاومات. الخلاف شأن طبيعي. شهدت الساحة الفلسطينية في زمن صعود الكفاح المسلح، صراعات وانشقاقات وتمزقات كثيرة. اختلفت عقائدياً وفكرياً، وفي الاستراتيجيا وفي التكتيكات وفي البرامج. اهتزت الساحة الفلسطينية مراراً، خارج فلسطين، لكن فلسطين ظلت الأرض والهدف والسبب في امتشاق السلاح. مراراً، انشقت «فتح» إلى ثلاث. انقسمت الجبهة الشعبية. مراراً شهر السلاح الفلسطيني في وجه الفلسطيني. مراراً ارتكبت منظمات المقاومة «إثم» تقديم الحليف الداعم (العراق، سوريا، ليبيا، مصر..) على رفيق السلاح. غير أن وحدة منظمة التحرير ظلت الإطار الذي يحضن الجميع. فهي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

ليس حتماً أن تنجب المقاومة نسخة تشبهها. الجزائر عرفت تمزقات كبيرة وانقسامات بين قوى متمركزة في الغرب (المغرب) وقوى مقيمة في الشرق (تونس) وقوى ميدانية منتشرة داخل التراب الجزائري. انتصرت وحدة الجهة على التنظيمات الجهوية... الجزائر وحدتهم وانتصروا.

«حماس» مدعوة بعد مغامرة إسلامية فاشلة إلى إعادة قراءة تجربتها، على ضوء مكاسبها في فلسطين. لم تكسب «حماس» في السلطة، عندما كسبتها بواسطة صناديق الاقتراع. «حماس» ليست جهازاً صالحاً للحكم، حتى في قطاع مسلم. «حماس» جهاز وقوة تحرير وصمود. إخوانية «حماس»، على الطريقة التي انتهزتها، ليست لمصلحة التحرير ولا لمصلحة إقامة سلطة وطنية على قياس التحرير والحرية. التحرر من إسرائيل، والحرية لكل فلسطين.

الثوب الإخواني ليس مناسباً للجسد الفلسطيني، كما ليس ثوباً مناسباً للشعب المصري، ولا للشعب التونسي. المطلوب «إخوانية» وطنية، وليس إخوانية عابرة للوطن الفلسطيني، همها أن تلتقي بـ«الإخوان»، في كل الأوطان بهدف خرافي: إقامة دولة الدين عبر الخلافة أو ما يشبهها. دولة الدين لا وجود لها. أضغاث إيمان هذه الدولة. دولة ودين، مشكلة للدولة والدين معاً. الفصل بينهما يقدم للدين خدمة جليلة، تضعه في مقام الروح، وهو أرقى المقامات. التذرع بالنصوص الدينية، ليس مجدياً. فالنصوص حمالة اجتهادات. فليكن الاجتهاد الفاضل هو اجتهاد تخليص الدين من التجارة به. حذار من كهنة الهيكل، فهم أصحاب فضة، لا أصحاب آيات بيّنات. أصحاب نفط لا وكلاء دم.

ماذا بعد؟

القتال خارج فلسطين أخذ المشرق إلى «الفتنة العظمى». فتنة أطاحت الدول والكيانات والشعوب والأقوام. فتنة تقتات من القتل والجثث ولحوم الأطفال وأرواح المدن ونبضات البلدات. فتنة لم تبقِ شاماً، ولم ترحم عراقاً، ولم تحفظ عهداً.
القتال خارج فلسطين ضياع للمصير ودخول في المتاهة. الضلال الفتنوي لا صواب فيه. لكن إصاباته قاتلة. فمن يرى في الأفق صورة واضحة؟ الزوال هو العنوان، والضياع هو المآل.

ماذا بعد؟

حزب الله الدرع الحاكي للبنانفلنتخيل لو أن فصائل المقاومة الفيتنامية ظلت على غيّها في تعميق الاختلاف؟ فلنتذكر عبقرية الثوري العظيم الجنرال جياب، الماركسي اللينيني، الذي تخطى التزامه العقائدي وأمّن نصاب الالتزام الوطني الفيتنامي. فلنتذكر ذاك القائد الثوري الإنساني الصلب، هوشي منه، رمز الصمود في وجه أعتى قوى متوحشة وهمجية، هي قوة الولايات المتحدة الأميركية. ولنعتبر من تجربة إلغاء التناقضات الثانوية لمصلحة التحرير. ولقد فازت هذه المقاومة فوزاً عظيماً. فيلم الإعصار، سجل ناطق بالصورة عن الهروب بالطوافات من فيتنام الجنوبية.

لدينا قيادة حكيمة وصلبة وصبورة وقادرة على الاحتضان. قائد المقاومة الإسلامية في لبنان قادر على إيجاد القاعدة المادية لتوحيد فصائل المقاومة، داخل فلسطين وخارجها، في جبهة واحدة واستراتيجيا واحدة.

ليس المطلوب أن تتخلى «حماس» عن حلفائها «الإخوانيين». المطلوب أن يلتزموا أو يتفهموا الخيارات الوطنية الفلسطينية. كما ليس مطلوباً أن يقطع «حزب الله» أواصر الدعم مع حلفائه الإقليميين. هوشي منه والجنرال جياب قادا مقاومة ساطعة. في عز المواجهة ما بين الصين وموسكو، نأت المقاومة الفيتنامية عن الجبارين وعن خلافاتهما، واستطاعت أن تجعلهما حليفين لها في القتال، حتى النصر.

السيد حسن نصر الله، تفوّق على جياب في الميدان، وفي خوض حروب غير متوازية ويفوز بها. هو مدعو لأن يوحّد المقاومات. إننا بحاجة إلى هوشي منه فلسطيني.

موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه