29-03-2024 02:53 PM بتوقيت القدس المحتلة

المملكة السعودية "مستعَمَرة" إن حكت تاريخاً دمويا!(2)

المملكة السعودية

بعد مدة من الدعوة، توافر للوهابيين عصبة قويةومستعدة لنشره بحدّ السيف. فقويت بهم شوكة آل سعود وبدأوا بالتحرك وغزو من هم حولهم من البلاد. فهاجموا الرياض ثم سعوا إلى إخضاع قرى نجد وهدموا أضرحة الصحابة ..

البناء الإيديولوجي للدولة :


بيئة نجد القديمة يبدأ الكاتب فؤاد إبراهيم في كتابه "السياسة والعقيدة في السعودية" بتثبيت فكرة ما لأثر الطبيعة الجغرافية من دور في تشكيل وعي الأفراد والجماعات وفاقا لعلم الانثروبولوجيا الاجتماعي الذي يبحث في العلاقة بين الإنسان والطبيعة المحيطة به، لينطلق في دراسة الطبيعة الإنسانية والاجتماعية لسكان نجد، البيئة التي نشأت فيها النواة الأولى للدولة السعودية في القرن الثامن عشر.

فقد كانت نجد تعدّ خارج إطار الاطلاع ولو بسيط لما يجري خارج أسوار صحراء منطقتهم. وبقيت حقائق علمية مدار رفض وجدل (مثل كروية الأرض) بعيدة عن ثقافة المجتمع، لدرجة أن التعليم كان محصورا بالعوائل الدينية العريقة وبيوتات الأمراء وبقيت الفتاة محرومة من التعليم حتى ستينات القرن العشرين حيث تمّ برشوة رجال الدين الوهابيين بالاستيلاء على دور التعليم.

وساهم هذا الوضع إلى حد كبير في إنجاح المشروع الوهابي والقبول بكل ما بشر به.  ولم يكن ثمة ذرة من وجود للدولة أو حتى للعالم خارج النطاق الحيوي بعمل الاتحادات القبلية النجدية. ولا يزال ثمة وعي قبلي لم يضعف تحت تأثير الدولة والمذهب.

فلم تكن بَوادي نجد الصحراوية تعرفُ بشيء مميّز قبل ظهور محمد بن عبد الوهاب، وتحالفه الشخصي، ثم تحالف أسرته آل الشيخ من بعده، مع سلالة آل سعود، ونشأة جيل من الوهابيين الدمويين الذين أثاروا الخراب والدمار والموت حيثما حلوا ووصلوا. لقد كان أهل نجد في معظمهم مسلمين يتبعون المذهب الحنبلي أكثر مذاهب الإسلام تقيّداً في تغليبه النقل على العقل، والأكثر تشدداً في اتّباعه أقوال السلف وأفعالهم والالتزام بمناهج عيشهم الماضية، والأكثر تزمتاً في أخذه بحرفية النصّ الديني وظاهر ألفاظه، واجتناب تأويله أو التفكير في رحاب معانيه أو التدبر في روحه... ولعلّ المذهب الحنبلي المتشدد كان ملائماً للطبيعة الصحراوية القاسية المتقشفة، التي كان يعيش فيها النجديون! لكن ظهور الشيخ ابن عبد الوهاب بينهم في أواسط القرن الثامن عشر بدّل حياتهم الرعوية البسيطة الساذجة لعنةً، وأدخل عليهم وعلى شعوب حولهم نكالاً، لعله ما زال متواصلاً إلى يومنا هذا!.

نشأة محمد بن عبد الوهاب :

ولد محمد بن عبد الوهاب في العام 1703، في قرية العيينة بنجد. وكان أبوه شيخاً حنبلياً يفتي لحاكم العيينة، ويمارس مهمات القضاء بين الناس. وحفظ الفتى القرآن وفهمه على حرفيته، ولقد كان شديد التزمت في وجوب تطبيق حدود الشريعة، ثمّ تأثر بآراء ابن تيمية و تلميذه ابن القيم في وجوب «محاربة أهل الضلال والبدع». ويقول الكاتب فؤاد إبراهيم أنه بات أشد تطرفا من ابن تيمية وابن حنبل معا، وراح يعلن صراحة عن أرائه المتطرفة بين علماء الحجاز إذ راح يكفّرهم و"يعلّمهم الدين" فضجوا منه حتى طردوه.

يقال بأن هذه الصورة ليست لابن عبد الوهاب بل هي لشار نجديعاد إلى بلدته العيينية فظن بادئ الأمر أنه وفق لنشر دعوته لكنه لم يستطع الوقوف قبالة أساطين نجد، فلم يكن يحرز درجة عالية وقدرة ذهنية كافية أمام هذا التحدي. فسافر بعد سنة باتجاه البصرة. فعكف على دراسة الفقه والحديث على الاصول الحنبلية ما غرس في داخله تطلعا راديكاليا جرى ترجمته في هيئة تغيير انقلابي في المجتمع النجدي فيما بعد. ولكنه لم يفلح في تسييل أفكاره وسط المجتمع البصراوي، سوى إثارته للخلافات العقدية بصورة حادة، لذلك أجبره المسؤولون فيها على مغادرتها. فوصل إلى قناعة أنه لا يمكنه نشر دعوته إلا عبر سلطة قادرة على تأمين الدعوة الوهابية وحمايتها. فعاد إلى العيينة وتداول الأمر مع حاكمها عثمان إبن معمر فقدم الأخير ضمانات له لحماية الدعوة بعد أن زوجه إبنته (الجوهرة)، ولكن شعر ابن معمر ان ابن عبد الوهاب طموحه كبير ويهدد حكم ابن معمر فطرده.

عبد الوهاب يتوافق وابن سعود في الدرعية :

بعد ذلك هاجر إلى الدرعية مركز آل سعود، وزعيمهم وقتها هو الشيخ محمد بن سعود. وكانت الدرعية قرية تقع وسط واحة نخيل بوادي حنيفة على بعد بضعة أميال شمال الرياض. واستقبل الشيخُ ابن سعود الشيخَ ابن عبد الوهاب بحفاوة. وكان بدوره متعطشاً للغزو يبحث عن مسوغ للقتال، ولقد ابتهج للدعوة الوهابية، فلم يتردد في اعتناقها وآمن بوجوب قتال "أهل الضلال"، والقضاء على "البدع الشركية"، والدعوة إلى "الدين الصحيح"، ونشر ذلك في أرجاء الجزيرة العربية. فمن دخل في الدعوة طوعاً كان بها، وإلاّ فإعمال السيف، وضرب الرقاب، والقتال «حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله». وهكذا أصبح محمد بن عبد الوهاب مفتياً للدرعية، في العام 1744. وأرسيَ الحلف العظيم بين آل سعود والوهابيين. وأول فتوى لابن عبد الوهاب كانت تحريم زيارة القبور فجرت تسوية الأضرحة بالأرض. وكان الشيخ يأمر الناس بأن يصلحوا أنفسهم فإن صلحتْ عاد فأمَرَهُم بتطهير بيوتهم من الرجس، وبتربية أبنائهم على الإسلام إن بالإقناع أو بالقمع. ثمّ بعدئذ أفتى ابن عبد الوهاب لابن سعود بإعلان الجهاد "لفرض شريعة الله في الأرض".

بعد مدة من الدعوة، توافر للوهابيين عصبة قوية وأنصار مؤمنون بمعتقدهم، ومستعدون لنشره بحدّ السيف. فقويت بهم شوكة آل سعود وبدأوا بالتحرك وغزو من هم حولهم من البلاد. فهاجموا أوّلاً بلدة الرياض القريبة من الدرعية، ثم سعوا إلى إخضاع قرى نجد حتى وصلوا ضفة الخليج العربي. فدخل الناس في الدعوة الوهابية حبا أو كرها.

آل سعود يوطدون حكمهم :

ال سعود لا تزال سياستهم هي نفسها في هدم كل صرح اسلاميوبعدما وطّد آل سعود حكمهم في نجد، بدأوا يوجّهون أنظارهم إلى الأقاليم الأخرى في المشرق العربي. وعام 1801، غزا الوهابيون يقودهم السعوديون مراكز التشيّع في جنوب العراق، حتى وصلوا كربلاء، فأعملوا في رقاب أهلها السيف، ولم ينج من مقتلة «المشركين الروافض» (كما سموا الشيعة) إلاّ من هرب! ودخل الوهابيون إلى مقام الإمام الحسين (ع) فهدموا القبة فوق ضريحه، ونهبوا ما وجدوه من الذهب والمال والمتاع في المشهد.

وفي العام 1802، اتجهت جيوش الوهابيين غرباً نحو مراكز التسنن في الحجاز، فبدأوا بغزو مدينة الطائف التي قاومتهم، فكان مصيرها مروّعاً إذ ذبحَ كل فرد ذكر من سكانها، وسُبيت نساؤها. ثمّ دخل الوهابيون مكة المكرمة التي استسلم أهلها، تحت أثر الرعب والهلع اللذين انتاباهم، وكذلك كان الحال في المدينة المنورة! وحين احتل أتباع ابن عبد الوهاب مكة، هدموا المعالم النبوية التاريخية فيها، وعملوا على تدمير كل القباب والأضرحة والمقامات وكل ما وجدوه من آثار قرون من التعمير الاسلامي حول المسجد الحرام. ودمّروا القبة المنصوبة فوق الدار التي ولد فيها النبي (ص)، وقبة فوق دار أبي بكر، وأخرى فوق دار الإمام عليّ (ع)، وقبة كانت تشير إلى ضريح السيدة خديجة! ثمّ أغار الوهابيون على المدينة فسطوا على الزينة والحلي الموضوعة على قبر الرسول (ص). وأرادوا هدم القبة الخضراء فوق ضريحه، مما أثار سخط أهل الحجاز وهلعهم، فلمّا خشي الوهابيون منهم التمرد والتفلت، تراجعوا عن فكرة هدم القبة النبوية، حتى تسنح فرصة أفضل !.. ثمّ لما وصلت قوافل الحُجّاج من مصر والشام إلى مكة، قام الوهابيون بطرد الحجيج منها باعتبارهم «مشركين»! وأعلنت البقاع المقدسة إقليماً خاضعاً للدولة السعودية الوهابية الجديدة، ومستقلة عن سلطة الخليفة العثماني في الأستانة.

استغرق تمدّد الدولة السعودية _ الوهابية الأولى أكثر من ستين عاماً. وتوفي في هذه الأثناء محمد بن سعود وكذلك محمد بن عبد الوهاب، فأكمل أبناؤهم وأتباعهم تلك الشراكة التي كان آباؤهم قد أرسوا قواعدها. وكان جيش نجد الملهم بالتعاليم الوهابية، بقيادة آل سعود شديد البأس والشراسة، وكان لا ينفك يغير على تخوم العراق والشام واليمن وعمان والبحرين.

نهاية الدولة السعودية الأولى :

اشتدّ غضب السلطان العثماني محمود الثاني، حين تناهى إليه أن الوهابيين قد نهبوا مكة المكرمة والمدينة المنورة ومنعوا كثيراً من الحجاج من أداء فريضة الحج. فأمر السلطان واليه على مصر محمد علي بمعاقبتهم. بعث محمد علي بأسطول إلى الحجاز العام 1813. فتمكن الجيش المصري من استعادة مكة والمدينة، لكنّ المصريين فشلوا في التقدم إلى صحارى نجد القاحلة المترامية الأطراف. ودأب الوهابيون على الاغارة ليلاً على معسكر المصريين المكشوف في الفلاة، ممّا كان يسبّب نزفاً لهم في العديد والعتاد. ثمّ بعث محمد علي حملات أخرى للقضاء المبرم على الوهابيين، لكن من دون جدوى.

وكان ذلك الفشل في القضاء على «فتنة شراذم بدو الصحراء» يضايق محمد علي، وخصوصاً مع توالي سؤال السلطان عن نتيجة ما أنجزه، حتى توصل الوالي الألباني لمصر إلى حلّ لمشكلته. فقاد إبراهيم باشا الجيش المصري بنفسه في موفى عام 1816، نحو نجد. وبدأ يلف سجادة الصحراء متكئاً على رنين النقود الذهبية لرشوة القبائل الطامعة وفك عصبياتها، ومعتمداً على ضراوة مدافعه المدمّرة لردع القبائل المشاكسة وسحق معنوياتها... وانضمت إليه قبائل عتيبة وحرب ومطير طامعة في البنادق المصرية، وفي المال الوفير. ثمّ بدأت القبائل الأخرى تنحو منحى القبائل الأولى، وتتخلى الواحدة تلو الأخرى عن آل سعود وتنضمّ إلى إبراهيم باشا.

علاقة ال سعود مع المملكة البريطانية انذاك لم تكن خافية على أحدتقدم الجيش المصري في الفيافي ببطء، لكن بثبات. وبعد أشهر من الرشى لقادة الأعراب، وصل إبراهيم باشا إلى أسوار الدرعية عاصمة آل سعود. وكان قد جلب معه مهندساً فرنسياً ومجموعة من المدافع الأوروبية الفتاكة لمهاجمة أسوار البلدة المبنية من الطين. وكانت المفاجأة أنّ وهابيي الدرعية قاوموا ببسالة شديدة، برغم القصف الهائل الذي سلّط عليهم، ولم يستسلموا أبداً، بل إنهم راحوا بسيوفهم يغيرون في الليل والنهار على معسكر المصريين. ولقد بدت حربهم انتحارية، لكن القتال معهم كان مريراً !..

وامتدّ القتال أشهراً حتى حلول العام 1817. ثمّ في النهاية قرر الحاكم عبد الله بن سعود بن عبد العزيز آل سعود، الذي كان يعرف بلقب «الإمام»، أن يستسلم بعدما قُضِيَ على معظم مقاتليه، ونفد منه الزاد. وأرسل إبراهيم باشا عبد الله آل سعود إلى القاهرة مكبلاً. ومن هناك أرسله محمد علي إلى السلطان العثماني.

في الجزء الثالث نكمل الحكاية ..

رابط الجزء الأول من المقال :http://www.almanar.com.lb/adetails.php?fromval=1&cid=41&frid=41&eid=730728