20-04-2024 09:45 AM بتوقيت القدس المحتلة

نداء التراب/ الزحف العظيم (8)

نداء التراب/ الزحف العظيم (8)

على حين غرّة من التاريخ والجغرافيا والسياسة، هبّ على الشعب النازح إعصار العزة والكرامة والشرف والإباء، تحدوه نشوة الانتصار. بلا إبعاز ولا إشارة ولا إملاء، بدأ الزحف الكبير الذي لا يماثله زحف شعب هجّر في القرون السابقة.

نداء التراب" قصة للكاتب اللبناني قاسم طويل، تروي حكاية حدثت بالفعل خلال حرب تموز في العام 2006 بين الكيان الصهيوني والمقاومة اللبنانية. هي قصة ذلك الشاب السائق "محمد" الذي وجد فجأة ليتبرع بتوصيل المواد التموينية لأهالي قرية "بيت ليف" في الجنوب المحاصر آنذاك .. "محمد" السائق الذي يبقى مجهولاً ولكن أين يختفي؟!..القصة في  ثماني حلقات متسلسلة ننشر كل يوم حلقة.

---------------

نداء التراب/ الزحف العظيم (8)ذهب الحاج يوسف ليستطلع ما أصاب منزله، فوجده مصدّع الجدران، الأثاث بعضه محروق والأخر مكسور ما عدا صورة ابنه الشهيد أحمد لا تزال ثابتة على الجدار..

أكمل طريقة إلى خارج الضاحية الجنوبية قاصداً بيروت الغربية سيراً على الأقدام. يفكر بأمور شتى، تختلط بذهنه صور كثيرة .. بدر إلى ذهنه وقف إطلاق النار الساعة الثامنة صباحاً، ماذا سيفعل النازحون، قيادة المقاومة ما هي أوامرها، ما هي اقتراحاتها؟، ماذا سيفعل النازحون بعد إطلاق النار؟!.. هل ستصدر الإشارة بالعودة، ولكن إلى اين والمنازل مدمرة ومقومات الحياة معدومة؟.. من يستطيع أن يعطي الأمر بالعودة السريعة، الناس إلى اين؟!.. 

تضج الأسئلة والخواطر بذهن الحاج يوسف فيتساءل وهو يسير متباطئاً، يضع يديه وراء ظهره، مطرق الرأس مثقلاً بالهم والغم..

صباح يوم الرابع عشر من آب استيقظ فجراً بعد الصلاة، جلس يشرب الشاي، أشغل التلفاز وإذا بالأقمار الصناعية تبّث صوراً عن انطلاق تجمعات النازحين، مشهد فاجأ الحاج يوسف وبددّ كل مخاوفه. إذ على حين غرّة من التاريخ والجغرافيا والسياسة، هبّ على الشعب النازح إعصار العزة والكرامة والشرف والإباء، تحدوه نشوة الانتصار. بلا إيعاز ولا إشارة ولا إملاء، بدأ الزحف الكبير الذي لا يماثله زحف شعب هجّر في القرون السابقة. من وراء الحدود ومن أعالي الجبال ومن السفوح والوديان ومن السواحل. قوافل من السيارات ومن الشاحنات والدراجات النارية وسيراً على الأقدام، لا تعيقهم جسور منسوقة، ولا طرق مقطوعة، ولا يخيفهم العدو الذي لم يزل يجثم في القرى والمنازل يلملم أمتعته ويلعق جراحه.

الحاج يوسف عزّ عليه أن يفوته هذا الزحف العظيم، فاستصرخ زوجته وبناته وأصهرته : هيا إلى جبل عامل. هيا إلى بيت ليف. بعد مسار طويل ووعشاء سفر، وصل إلى مشارف صور، وبدت له بساتين البرتقال.. وإذا بمنطقة البص تعجّ حركة وازدحاماً. هذه المنطقة التي كانت قبل ساعات خراباً مهجوراً. نظر إلى هذا الزحف الغفير الذي يهرج بأناشيد النصر وحدق على وسع الأفق بالقرى والدساكر وأخذ يهمس سائلاً :

نداء التراب/ الزحف العظيم (8)جبل عامل أيّ سرّ فيك؟!!
هل جبل ترابك وعجن من خميرة تربة كربلاء..
فتوهّجت بنور الشهادة؟؟..
هل حمل غيم كربلاء بعض دم سيد الشهداء أبي عبدالله الحسين (ع) وساقته الريح إلى علياء جبالك وسهولك وأنهارك فاستحال مزناً ممطراً؟!!
أينما رذّ رذاذة نما الغرس وطاب الجنى والثمر..
وفاض الماء وعذب بلا كدر ..
وارتوى بنوعاملة من فيض قراحة..
ففاض بهم شرفاً وعزة وكرامة..
فانعقدت نطف الرجال من ذاك الفيض الزكي فحملت المهات برجال كنههم الولاية الصرف..
فكان منك العلماء الأبرار
والصلحاء الأخيار
ومنك الأبدال..
وما سرّ الإبدال فيك؟!!
هل هم مجاهدوك من علماء ومقاتلين عبر التاريخ؟!..
امتشق كل منهم للذود عن مقدسات الأرض والعرض والدين..
وكلما ارتقت عصبة منهم إلى ذرى الشهادة..


امتشقت عصبة أخرى الكتاب والسيف..
من الشهيد الأول.. إلى الشهيد الثاني وما قبل وبعد..
إلى السيد عبد الحسين شرف الدين
إلى السيد محسن الأمين..
من فتى المقاومة الإسلامية الأغر الاستشهادي أحمد قصير
إلى رائد المقاومة الإسلامية صاحب "الموقف سلاح، والمصافحة اعتراف" الشهيد الشيخ راغب حرب
إلى سيد المقاومة الإسلامية وقائدها الأشم، الشهيد السيد عباس الموسوي ووصيته الخالدة.."الوصية الأساس حفظ المقاومة"..

نداء التراب/ الزحف العظيم (8)وما قبلهم .. وما بعدهم..
مواكب الشهداء تتدافع بعشق إلهي .. محمدي .. علوي..
مسجلين نصراً إلهياً يحاك بدرا وخيبر
ممهورا بنص الصادق جعفر "عليه السلام"..
جبل عامل : وما أرادك جبّار بسوء إلا وقصم الله ظهره نصفين"..

وصل الحاج يوسف إلى قريته، توجه إلى منزله، التقى ابنه الشيخ حمود، بعدها ذهب إلى الكرم الذي رأى فيه الأفعى في منامه ليلة الخامس من آب.. فتح باب الكرم وإذ به يرى نصف الأفعى الذي فيه الذيل على مدخل الكرم في المكان الي ضربها في منامه بالحجر وقطعها نصفين، هو بطوله ولونه هامداً ومتآكلاً ..

استغرب واندهش ثم سبّح وحمد..

خلال عودته إلى منزله، مرّ بمحاذاة سنديانة الشهيد ووقف تحت أفنائها الوارفة. تقدم خطوات ووقف بباب ضريح الشهيد، قرأ الفاتحة، ثم تذكر بلوعة السائق محمد الذي أكثر من السؤال عن السنديانة وعن الشهيد والذي يماثله ببعض الأمور..

هذا الشهيد مجهول الإسم والتاريخ.. كذلك السائق محمد ما زال حتى اليوم مجهول العائلة والعنوان.......