25-04-2024 04:00 AM بتوقيت القدس المحتلة

بين غصب الأعيان والبلدان مال قبان الميزان

بين غصب الأعيان والبلدان مال قبان الميزان

لغصب مهما كان حجم المغصوب وقيمته هو: (ظلم عظيم، والله تعالى لعن الظالمين، فلكل عمل من الأعمال جهتان، بل جهات، فالاستعلاء على مال الآخر ظلم من جهة أنَّ صاحبه لا يقدر أن يستفيد من ماله، والاستعلاء على الآخر من دون وجه مشروع ظل

بين غصب الأعيان والبلدان مال قبان الميزانأكثر ما كان يشدّني وأنا في طريقي من عمّان الى كربلاء المقدسة عام 2003م عبر الطريق السريع في أول زيارة للعراق بعد هجرة قسرية دامت نحو ربع قرن توزعت بين سوريا وإيران والمملكة المتحدة، هو زيارة مراقد أهل البيت(ع)، وزيارة قبر الوالدة الفاضلة أمير حسين زين العابدين (زيني) المتوفاة في كربلاء المقدسة في 26 شعبان 1409هـ (13/4/1989م)، التي تجرّعت الغصة بعد الأخرى بسبب وفاة بكرها في سنّ مبكرة وهجرة أربع من أبنائها وانقطاع السبل بثلاثة منهم، فالمرء في هذه الدنيا بين ثنائية مقدسة: مودة أهل البيت(ع) وصلة الرحم، وهذه الثنائية هي ما يبقى للإنسان من ذخر في عالم ما بعد الدنيا.

د. نضير الخزرجي/ خاص

عند وصولي إلى المقبرة الحديثة على الطريق بين كربلاء المقدسة والنجف الأشرف هالني كثرة القبور وحجم المقبرة الواسعة على مدّ البصر، فلم تكن على عهد الشباب قائمة، ولكن مغامرات نظام بغداد في حروبه مع إيران والكويت جعلت من صحراء كربلاء باتجاه النجف بيوتاً دائمة للنائمين تحت الأرض، وهكذا الأمر في كل محافظات العراق. لم يكن الوصول الى قبر الوالدة بواسطة السيارة بالأمر الصعب، فالمقبرة على كبرها فيها من الشوارع والأزقة والفروع ما يسهل علينا الوصول اليه بيسر.

وتكررت زيارة أهل القبور من ذوي الرحم في كل رحلة لمسقط الرأس، ولكن الملفت للنظر في مقبرة  المدينة أنه في كل عام تنحسر الشوارع والشوارع الفرعية القريبة من الشارع العام، فلم يعد الوصول الى القبور عبر السيارة بالأمر السهل، مما أثار فضولي للسؤال عن هذه الظاهرة الخطيرة، فمن أجاز للدفانين دفن الموتى على أطراف الشوارع التي شقّتها البلدية داخل المقبرة حتى تزاحمت السيارات مع القبور؟ وأين ذهبت الأزقة حتى احتاج الزائر لقراءة الفاتحة على قبر صاحبه القفز فوق القبور؟.

لم تكن الإجابة صعبة، فمصطلح "الحواسم"، الذي شاع في العراق قبل سقوط نظام صدام حسين عام 2003م وازداد بعده بشكل فضيع، انتقل داؤه الى القبور. وكلمة الحواسم هي اللفظة شبه المهذبة للغصب والسرقة والتجاوز، ويختلف أصحاب الحواسم والتجاوز بين الفقير والغني، وكل واحد يبرر الحوسمة على طريقته، ولكن في نهاية الأمر هو تجاوز وغصب، مرّة تجاوز وغصب للمال العام وأخرى للمال الخاص، ولكن أن يتم حوسمة شوارع البلدية في المقابر واستغلالها لدفن الموتى وبأسعار باهضة، فهو لعمرك في عالم الغصب نادر، إلا في بلد المتناقضات! فأصحاب الميت من أجل راحتهم وسهولة الوصول الى قبر ميتهم يضيفون إليه وزراً فوق أوزاره وهو في عالم البرزخ، في حين أن الثاوي أحوج ما يكون إلى خيرات ذويه ودعواتهم!!.

تذكرت مقبرة كربلاء وحوسمة شوارعها وأنا أتابع قراءة كتيب "شريعة الغصب" للفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر حديثا (2014م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين، في 64 صفحة في 158 مسألة شرعية و27 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري.

حق المخلوق أولا

في كل مورد من موارد الحياة، فإن الاعتداء على الغير هو سلب لحقوقه، إن كان الحق عيناً ماديا أو معنويا، إن كان بعلمه أو بدونه، وهو من الذنوب الكبيرة، وبتعبير الفقيه الغديري في تعليقه: (والمعتدي أي الغاصب آثم بإثمين: بارتكاب معصية الله، وبسلب حق الخلق، فما دام لم يُرض صاحب الحق، لا يرضى ولا يعفو عنه الرب تعالى، لأن الله قدّم حق الخلق على حقه في مثل هذا المورد، وهذا هو عين العدل الإلهي)، وعليه فإن الاستغفار لا يكفي ما دام صاحب الحق المغصوب غير راض، لأن الغصب قد يقع على المادة، ولكنها في واقعها اعتداء على الحق الشخصي للإنسان، وهذا الحق مقدّس. فالإنسان قد يمنح الآخر ثروة ويهديه أموالا طائلة بارادته ولكن يثأر ويزأر إن سُلب من حقه دينار واحد، ولا يعد هذا الأمر من الحرص على الدنيا، فالدينار لا قيمة له، ولكن الرجل يثأر لحقه المغتصب مهما ضئلت قيمته، لأن الحق هنا معنويٌ أكثر منه مادياً، فهو سلب وغصب للإرادة والحرية، والحق المعنوي يظل يحاصر الإنسان في نومه ويقظته حتى يسترجعه بعودة العين المغتصبة.

وحينئذ يشعر انه استعاد حقه وحريته في التملك بما هو تحت يده وتقرّ عينه. من هنا يضيف الفقيه الغديري أن الغصب مهما كان حجم المغصوب وقيمته هو: (ظلم عظيم، والله تعالى لعن الظالمين، فلكل عمل من الأعمال جهتان، بل جهات، فالاستعلاء على مال الآخر ظلم من جهة أنَّ صاحبه لا يقدر أن يستفيد من ماله، والاستعلاء على الآخر من دون وجه مشروع ظلمٌ من جهة أنَّ المستعلى عليه لا يستطيع أن يتمتع بحريته الفطرية).

ولا يمكن التغافل عن خطورة الغصب مهما كانت قيمة المغصوب، وهنا يؤكد الفقيه الكرباسي في التمهيد لأحكام شريعة الغصب بأن: (الغصب من الآثام الكبيرة التي يمقتها الله جلّ وعلا، وقد ورد عن الرسول(ص) أنه قال: "مَن خانَ جاره شبراً من الأرض جعله الله طوقاً في عنقه من تخوم الأرض السابعة حتى يلقى الله يوم القيامة مطوّقا إلا أن يتوب ويرجع")، وفي الحديث المروي عن الإمام علي(ع): (الحجر الغصب في الدار رهن على خرابها).

والغصب بشكل عام هو: أخذ الشيء قهراً، كما في اللغة، وفي الشريعة: الاستيلاء دون حق على ما للغير دون رضاه، عيناً كان أو نقداً، منفعة كان أو حقا، وبتعريف الفقيه الكرباسي: (الغصب: هو وضع اليد على مال الآخر أو حقه والاستيلاء عليه عدواناً وبغير حق)، وبالتالي فإن للغصب ثلاثة أركان: (الغاصب والمغصوب منه والمغصوب) وبتشخيص ركن الفاعل من الأركان الثلاثة يكون الغصب قد خرج عن مفهوم السرقة الذي يجهل المرء فاعله، كما خرج عن مفهوم السرقة، لكون العين في الثاني تؤخذ وبشكل عام خلسة، وفي الأول يمكن أن تؤخذ قهراً بالقوة والفرض أو حياءً، كما أن أحكامهما مختلفة من حيث الجزاء والعقاب.

نماذج من الغصب

لا يخفى أن الأعم الأغلب في الغصب هو الاستيلاء على مال الغير، ولكن الشرع الإسلامي بحرصه على الحقوق والحريات وسّع في التعريف ليشمل الاستيلاء على حق الآخر، كأن يكون الحق منفعة مادية أو معنوية، فقد يكون المستولي هو المالك نفسه للشيء المغتصب، ولكنه في ظرف من الظروف يكون استيلاؤه بغير وجه حق واعتداء على آخرين لهم حق المنفعة والاستفادة من الملك المغصوب ويدخل المالك حينئذ في خانة المغتصبين، ويمثل الفقيه الكرباسي بذلك للمالك والمستأجر: (فمن استولى على بيت مؤجر لشخص فهو من الغصب حتى وإن كان الغاصب هو المالك).

بل وينتقل الغصب حتى الى الأملاك العامة، مثل بيوت العبادة والأنهار والفضاء العام، فهي أملاك مشاعة لكل الناس، ولكن قد يقع فيها الغصب إذا اعتدى أحدهم على الآخر واستولى على ما ليس فيه حق، من ذلك كما يستشهد الفقيه الكرباسي: (إذا منعه من حقه في الاستحمام في البحر أو النهر أو التنفس في فضاء عام، أو منعه من وصول نور الشمس اليه فإنه غصب وقهر) بل ويدخل في زمرة الغاصبين: (مَن منع حقوق الفقراء من أمواله فقد اغتصب حقهم، سواء كان خُمساً أو زكاةً، أو كان نذراً أو أيماناً أو غير ذلك)، بل حتى في الحق الإلهي العام، فإن الغصب قد يقع في بيوت الله: (فمن الغصب .. من كان قد جلس في مسجد للصلاة فجاء مَن أزاحه من المكان الذي كان في حيازته من دون وجه حق أو ما شابه ذلك)، وبتعبير آخر: (إذا حجز أحد مكاناً في المسجد بشكل شرعي فجاء أحد وأزاحه من مكانه فقد اغتصب حقه، وتُعد صلاته باطلة).

وكم أتمنى أن يقرأ البعض هذه الفقرة وبخاصة أولئك الذين يجبرون الآخرين على التنقل إلى مكان آخر قهراً أو حياءً حتى يأخذوا مقعدهم في صدر المجلس، فهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون يغتصبون حق الجالس مهما كانت شأنية الغاصب، وبخاصة عندما يكون المكان مشاعا وعاماً لكل الناس فقيرهم وغنيهم، عالمهم ومتعلمهم، ولذلك رُوي عن النبي الأكرم محمد(ص): (لا يُقيم الرجلُ الرجلَ من مقعدِه ثم يجلس فيه، ولكن تفسَّحوا وتوسَّعوا)، واشتهر على من عاصر النبي محمد(ص) قوله: (كنّا إذا أتينا النبي(ص) جلس أحدنا حيث ينتهي).

وللغصب أشكال وصور وهي كثيرة، ومن نماذجها: (من استولى على حق الطبع والتأليف، أو على البيت المستأجر أو الأثاث المستأجر، فهو غصب). (المنع من إقامة الصلاة في المسجد). (إذا رهن أحد بيته مقابل دَين، فإذا انتزع المالك البيت قبل أن يسدد دَينه فالبيت الذي يملكه يُعد غصباً ما دام لم يسدد الدَّين). (مَن جلس على بساط الآخر أو كرسيه دون رضاه فهو غصب). (من الغصب مَن منع توجه الطلاب الى المدرسة فهذا محرّم وغصب لحقوق الطلاب، وتعطيل لأهداف المدرسة). (إذا قام أحد بمنع الناس من المرور في شارع أو على جسر فهذا غصب لحقوق المارة والسيارات).

بل ومن الغصب الاستيلاء على ما هو حرام في شرع الإسلام، فمحرَّمية الشيء لا تسيغ للمسلم غصبه والاستيلاء عليه قهرا وجبرا وحياءً، فعلى سبيل المثال: (إذا غصب ما هو محرّم، فإن كان من المسلم، لا تجب اعادته، ولا يضمن إذا تلف، كما لو غصب خمراً من مسلم، وأما إذا غصبه ممن يستحلّه، وجبت إعادته إليه أو دفع ثمنه). فإذا كان الغصب غير جائز حتى في الخمر لمن يرى فيه الحلية، فما بالك بالأمور الأخرى؟ فوَقْع مضار الغصب على نفسية المغصوب منه كبير جداً، فهو غصب للعين والحق والحرية والإرادة، فالمسروق قد ينسى ما سُرق منه لاسيما وهو  يجهل السارق، ولكن في الغصب هو أمام غاصب يؤرقه وجوده ورؤيته في كل حين، فكيف إذا كان الغاصب من الأصدقاء أو الجيران أو كان من القريبين نسباً أو سبباً، فهذا هو الجرح الذي لا يندمل، وكما قال الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة .... على النفس من وقع الحسام المهنّد

يا ترى ما هو شعور من يفقد الوطن ويُبعد منه ويُغتصب منزله ويُقتل أولاده؟ وما هو شعور أمة يُحتل وطنها وتتشتت في المهاجر، إنّها الطامّة الكبرى، وغلاف الكتيب وهو من تصميم المهندس هاشم سلطان علي الصابري يكشف جانباً من هذه المأساة!..

إن ما جاء في "شريعة الغصب" على المستوى الشخصي هو في واقعه دعوة لمعرفة المراد من الغصب حتى لا يقع الإنسان في الإثم من حيث يدري أو لا يدري، وكما يشير القاضي الفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري في خاتمة التعليقة: (يحتوي على أهم الأحكام الشرعية للغصب، وقد حاول المؤلف الفاضل المحقق الخبير آية الله الدكتور الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي حفظه الله تعالى بيانها بأسلوبه المتفرد لكي يستفيد منه الطالب والأستاذ بل وكلّ مَن يرغب في معرفة الدين وأحكامه)، وهو كذلك.