29-03-2024 08:20 AM بتوقيت القدس المحتلة

التدمريّون يخاطرون بحياتهم لإنقاذ تراثهم الثقافي العالمي

التدمريّون يخاطرون بحياتهم لإنقاذ تراثهم الثقافي العالمي

مئات مواقع التراث العالمي السوريّة، ومنها تلك المدرجة على لائحة منظمّة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) في ضمان الحماية الدولية، باتت عرضة للتهديد والخراب



 

كتب: د. فرنكلين لامب

ترجمة: زينب عبدالله

 

تدمر - محافظة حمص السوريّة

نظراً لما يتمّ توثيقه بشكل متزايد حول أهمّية معبد "بل" في تدمر بالنسبة للمديرية العامّة السورية للآثار والمتاحف التابعة لوزارة الثقافة، فإنّ مئات مواقع التراث العالمي السوريّة، ومنها تلك المدرجة على لائحة منظمّة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) في ضمان الحماية الدولية، باتت عرضة للتهديد والخراب وفي بعض الأحيان الدمار الحقيقي.

فمنذ حوالى عشرة أشهر يتعمّد قنّاصو جبهة النصرة إطلاق النار من أعلى هذا المكان باتّجاه قرية تدمر القديمة المجاورة بالتزامن مع تدمير هذا الموقع المدرج في لائحة (اليونيسكو) ضمن التراث العالمي الثقافي دماراً كاملاً، وهو أحد المواقع الستة المماثلة في سورية.

وفي محافظة حمص، إحدى المحافظات الإدارية الأربعة عشر في سورية، ثمّة دمار واسع يتراوح مداه بين مدينة حمص القديمة والقلعة الرومانية المحرّرة مؤخّرا، وهي قلعة الحصن الواقعة حوالى 100 كيلومتر غربيّ حمص، وفي الطريق إلى تدمر التي تقع حوالى 200 كيلومتر شرقيّ حمص باتّجاه الحدود العراقيّة. وقد كانت محتلّة من قبل "الثوّار الإسلاميين" على مدى عشرة أشهر، إلّا أنها باتت الآن تحت سيطرة الجيش السوري إلى حدّ كبير. وبالإتّجاه أكثر إلى الشرق، فمدينة الرقّة الواقعة شرقيّ سورية بالقرب من العراق تقع تحت سيطرة حكم "داعش" القاسي والذي غالباً ما يكون قائماً على تعاطي المخدّرات. وهناك الكثير من المواقع التاريخية الأخرى المدمّرة التي ليس بإمكان ممثلي المديرية العامة للآثار والمتاحف في وزارة الثقافة زيارتها بسبب سيطرة الثوّار عليها.

والسبب الرئيسي لهذه الكارثة هو فقدان الدولة السيطرة على مناطق أساسية سواء كان ذلك على المدى القصير أو البعيد، المأزق الذي يجعل المواقع الأثريّة عرضةً للسرقة واللصوص والحفر بالمعدّات الثقيلة، فضلاً عن جعلها مفتوحة أمام الميليشيات لتستخدمها كمخيّمات أو منصّات إطلاق صواريخ. أمّا تعقيد الجهود المبذولة للحفاظ عليها فيتمثّل بنهبها من قبل اللصوص والمزوّرين، ومهرّبي الآثار والعاملين في السوق السوداء، إلى جانب العقائديين المتطرّفين العازمين على التخلّص من الآثار التي لا تُقدّر بثمن. وقد تمّ تنفيذ أعمال كهذه بحصانة، في حين أنّ عمليّات النهب ما زالت مستمرّة. وبغياب أيّ وعي إضافيّ أو أيّ جهد لحثّ الرأي العام الدولي أو حكوماته على التحرّك، ستستمرّ هذه الإعتداءات على تراث سورية الثقافي إلى أن يبقى القليل لتعلّمه حول هذه التحف المنهوبة والمدمّرة.

وما قد أُخبِرت به حول الدمار الهائل في تدمر يعود لمعبد "بل" السامي المكرّس في العام 32. وهو في تدمر إلى جانب إله القمر "عجلبول" وإله الشمس "يرحبول"، وقد شكّل هذا الثلاثي مركز الحياة الدينية في تدمر وبين الثقافة التدمريّة الواسعة الإنتشار.

ولقد سجّلت بعض الملاحظات حينما رأيت الفتحة في الجدار الجنوبي للمعبد (حوالى 1*2 متر)، إلى جانب فتحة أخرى عند الحائط الشرقي لمستودع الخشب بجوار غرفة الضيوف للجهة الجنوبية (حوالى 1.5*1.5 متر). وإلى ذلك، فإنّ القصف طال عدداً كبيراً من أعمدة الرواق الجنوبي للمعبد، وقد انهار اثنان منهما. أمّا الحائط الجنوبي للمعبد فقد تمّ قصفه بمئات الرصاصات وعدد من القذائف في زوايا مختلفة. وقد طال القصف الحائط الغربي من الداخل والخارج في حين علق الحائط الشمالي بين ضربتين محدودتين مقابل تعرّض حائط المعبد الشرقي لفتحتين كبيرتين.

وإضافةً إلى ذلك، تمّ قصف عمود الركن الشمالي الشرقي من الرواق المؤدّي إلى سور المعبد، وبإمكان المرء أن يرى آثار احتراق عتبة الرواق الشرقي للمعبد. وهناك حرائق أخرى لجهة الجدران الشمالية والشرقيّة، فضلاً عن النافذة الجنوبيّة للمعبد. وبمساعدة دليل من متحف تدمر الذي سمح بالتصوير، رأيت الدمار والتنقيب غير الشرعي في جهة القبور الجنوبية الشرقية والجنوبية الغربية، إلى جانب الدمار والتنقيب غير الشرعي في معسكر دقلديانوس، وتدمير جدران متحف تدمر وسرقة آثار الواحة والمسرح ومنزل الضيوف. أمّا الأخير فقد تمّ احتلاله من قبل داعش و/أو جبهة النصرة لمدّة عشرة أشهر، وقد سرقوا ونهبوا كلّ شيء تقريباً، فحتى أشرطة الكهرباء لم تسلم منهم. وهناك أعمدة يبلغ ارتفاعها حوالى 40 قدماً وهي ملاصقة لمنزل الضيوف، قد تمّ استهدافها أيضاً صيف العام 2013 وصولاً إلى أساسات عدد كبير منها. وتغطي القذائف المتقطّعة وأصوات الرصاص مساحة واسعة من مكان الآثار القديمة.

وكان مدير متحف تدمر المثير للإعجاب، الدكتور خليل الحريري قد عرض عليّ أكثر من مئة قطعة أثريّة لا تقدّر بثمن وقد تمّت سرقتها من قبل الثوار وثمّ استعادتها على مرّ العامين الماضيين من مخابئهم. وقد تمّ ذلك بشكل أساسي بمساعدة السكان السوريين المحلّيين الذين يصفون أنفسهم بأنهم تدمريّون. وفي بعض الأحيان يخاطرون تحت نيران القنّاصة أو الإعتداءات الثأرية، إلّا أنّ هؤلاء السكان المحلّيين يستمرّون في جمع الكنز المسروق وإخبار السلطات عن مكان وجوده. وهذه الآثار وغيرها باتت الآن في مأمن بفضل جهودهم. وكنتيجة جزئية ليقظة المواطنين وبُعد نظر الحكومة السورية، والدروس المأخوذة من العراق ومن متحف بغداد، فإنّ المتاحف السوريّة كلّها، البالغ عددها 32 متحفاً، بالإضافة إلى 80% من الآثار المحفوظة في متحف تدمر المحلّي قد تمّ دفنها سرّاً في بداية الصراع، وحتى الساعة لم يتمّ اكتشاف أيّ من المخابئ أو تدميرها بمساعدة المواطنين في الحفاظ على سريّة ما يعرفونه. أمّا الأبواب الحديدة الثقيلة فقد وُضعت على مداخل متحف سورية مع زيادة الإجراءات الأمنية من قبل القوات الحكومية وتطوّع لجان "مراقبة الحي" المحلّية المؤلفة من المواطنين العاديين.

وعند الغسق، غادرت تدمر، وفي طريقي إلى دمشق، وعند نقاط تفتيش الجيش التي فاق عددها العشرين، كان سائق السيارة سريعاً كالبرق في قيادته لأكثر من 300 كيلومتر، وكان ذلك مفهوماً لأنّه قد تمّ تحذيرنا مسبقاً ومراراً من البقاء في الصحراء مع حلول الظلام بسبب تواجد "الإرهابيين" في بعض الأحيان على طول الطريق العام المؤدي للصحراء. وفي حين كان بإمكاني أن أخبر السائق بأنه يستطيع تخفيف السرعة قليلاً، إلى حدّ ما، إلا أننا لم نكن نستطيع الرؤية بسبب تعطّل أحد أضواء سيارته، وقد ابتسم وقال ما يقوله الكثيرون هنا للتهدئة من روع الآخرين بوجود احتمال كبير لوقوع كارثة: "لا تقلق. الطريق جيدة، تماما كأميركا أليس كذلك؟ أوباما كويّس؟" وبعد ذلك طار الرجل بسيّارته.

وبدلاً من الإستعداد لحادث ما، كنت في الواقع حزيناً خلال رحلة عودتنا ليلاً إلى دمشق وكنت أفكّر في كلّ ما رأيته في تدمر، والحزن الذي عَلا وجه الرجل التدمريّ، مدير متحف تدمر الدكتور خليل الحريري خلال الفترة التي قضيناها معاً. لن أنسى النظرة على وجه هذا الرجل عندما تحدّث كيف أنّ علماء الآثار نقلوا بصعوبة تراب المواقع الأثريّة بالملاعق الصغيرة مرتدين القفازات البلاستيكية لحماية أيديهم. وكان عمل المجموعات يمتدّ لأسابيع أو أكثر على مساحة متر مربّع واحد فقط. وإذ شرح كيف تتمّ عمليّات المافيات الدولية اليوم بدعم من المستثمرين في العراق وإسرائيل والأردن ولبنان وتركيا وحتى من قبل متاحف غربية ودور المزادات الأثريّة المشهورة، فهي تستخدم معدّات هائلة لغَرف آلاف المترات المربّعة من عمق ماضينا في خلال دقائق فقط، في حين يمزّقون تراثنا الثقافي بوحشيّة للاستفادة من بيع ثرواتنا. وفي معظم الأحيان يتغاضى هؤلاء، إلى جانب كثير من الحكومات، أو يفشلون في تطبيق القوانين البلديّة والدولية الحاليّة.

فتراث سورية الثقافي، والتراث الثقافي لكلّ منّا محميّ بموجب مظلّة قانونية تنبثق وتتوسّع من اتفاق جنيف (الرابع) عام 1949 حول حماية المدنيين. والإعتداء على التراث الثقافي ممنوع بموجب المعاهدات الثنائية والمتعددة الجهات عقب الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن القانون الدولي العرفي.

والمجتمع الدولي مجبور على العمل من دون أيّ تأخير بموجب مسؤوليته الأخلاقية والقانونية للحفاظ على المواقع الأثرية وحمايتها وإعادة إعمار المدمّر منها عند الضرورة ووجود الإمكانية لذلك، هذه المواقع التي لطالما كانت بعهدة الشعب السوري على مرّ آلاف السنين. وهم لذلك محترمون من جميع أصحاب النوايا الحسنة لتضحياتهم ولإنسانيتهم على حدّ سواء.


فرنكلين لامب أستاذ زائر في القانون الدولي في كليّة الحقوق بجامعة دمشق. وهو متطوّع في برنامج صبرا وشاتيلا للمنح التعليمية (sssp-lb.com).

يمكنكم التواصل معه عبر بريده الإلكتروني fplamb@gmail.com

 

موقع المنار غير مسؤول عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه