16-04-2024 09:28 PM بتوقيت القدس المحتلة

المملكة السعودية"مستعمرة" إن حكت تاريخاً دموياً..!(3)

المملكة السعودية

بعد انهيار الدولة العثمانية في 1918، أكمل سيطرته على مناطق عديدة وحاصر في 1921 الكويت التي عاش فيها لاجئا. اعترف الانجليز به في مؤتمر القاهرة سلطانا على نجد وتوابعها، وطلبوا منه احترام حدود العراق

الرؤية العقدية خدمة لمشروع سياسي يقوم على القهر :

كتاب العقيدة والسياسة في السعوديةكان لا بد من هذا السرد التاريخي حول تأسيس الدولة السعودية الوهابية الأولى، التي سرد الكاتب جزءا مهما منها، لنقدم لكم أعزائي القراء لمحة وافية إلى حد ما عن الكيفية الدموية لتأسيس ما يسمى اليوم المملكة العربية السعودية. ولنؤكد على أن الصرامة في الخطاب العقائدي لا يزال يحافظ منذ ذلك العهد حتى اليوم على مضمونه دون تغيير.

ويعود السبب في ذلك كما يشرح الدكتور إبراهيم مؤلف الكتاب أن الرؤية العقدية للمجتمع مصممّة لخدمة مشروع سياسي مفتوح. فرغم انهدام الدولتين السعودتين الأولى والثانية، فإن الإيديولوجية المشرعنة للدولة السعودية بقيت على حالها. ما يلفت الإنتباه إيضاً أن بنى العلاقة بين الديني والسياسي، والوظائف المرسومة لكل منهما لم تتبدل، لا على مستوى البنية الدينية والتراتبية الحاكمة عليها، ولا على مستوى البنية السياسية.

وبرز في حقبة الدولة السعودية الثانية مجموعة من علماء نجد السلفيين، وفي مقدمهم الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ الذي نفي إلى مصر بعد سيطرة طوسون باشا على مصر، ثم عاد إلى نجد سنة 1241 هجرية، بعد أن أقام تركي بن عبدالله أل سعود مملكة في الرياض على أنقاض الدرعية، وورث هذا الشيخ مهمات جده محمد بن عبد الوهاب وأصبح بمثابة المفتي العام للدولة السعودية الثانية.  وتنبّه الملك عبد العزيز، مؤسس الدولة السعودية الثالثة، إلى المفعول السحري لإرث التكفير الذي نظر إليه محرضا فعالا لآنصاره على الغزو وجني الغنائم.

ونأى في بداية حركته عن التوسل بالعامل الديني، ولكنه حين أراد استيعاب "جيش الأخوان" العقائدي أوحى لهم بأنه أمامهم ومرشدهم الديني فأطاعوه. واقتفى سيرة أبائه وأجداده في مراسلة الولاة والعلماء ووجهاء المناطق يخيّرهم بين الإنضواء في الدعوة الوهابية أو القتل. وكان واضحا أن أمراء أل سعود ومنذ بداية التحالف مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كانوا يجردون الحملات بموجب فتاوى تكفير كل القرى والمناطق المستهدفة بالغزو- الجهاد.

الغزو السعودي بمباركة بريطانية :

صلة ال سعود مع بريطانيا قديمة جدا قبل انهيار الإمبراطورية العثمانيةوبعد مسيرة تاريخية عريضة لال سعود في محاولتهم جعل بلاد الحجاز كلها تحت امرتهم، قاموا خلالها بسفك الدماء وهتك الحرمات وتكفير المسلمين وعلمائهم وقتل عدد كبير منهم في المناطق التي احتلوها أو "فتحوها" كما كان يدعون. يصل المطاف إلى بعد ظهور عبد العزيز الرحمن أل سعود على المسرح السياسي بعد احتلاله الرياض سنة 1902، بدأت حقبة جديدة بلغت ذروتها بتشكيل دولة لآل سعود بدعم من علماء الدين من المذهب الوهابي. فبعد أن وطد عبد العزيز أركان إمارته في منطقة نجد، قاد جيشاً من "الأخوان" وسار بهم إلى الإحساء سنة 1913 في ظل انشغال الامبراطورية العثمانية بمواجهة الإستعمار الإيطالي على ليبيا في العام نفسه، حيث استغل الفرصة وهجم على الإحساء بعد أن أطلع الضابط الانجليزي ليتشمان على خطته لترتيب اوضاع المنطقة بين الطرفين بعد السيطرة عليها، فدخل الإحساء وثبّت أقدامه فيها. وزحف بعد ذلك جيش ابن سعود من الطائف إلى مكة المكرمة، بعد أن تخلى الانكليز عن دعم الشريف حسين ونقضهم العهود معه في إقامة إمبراطورية عربية، بعد أن رفض القبول بدولة يهودية في فلسطين.

الجيش السعودي هدم ما صادفه من أثار إسلامية وتاريخية، وهجموا على المسجد النبوي، وخربوا مقابر أل البيت (ع) وذبحوا الرجال وسبوا النساء لآنهم لم يدخلوا في العقيدة الوهابية. وبسقوط الحجاز تحت سيطرة ابن سعود، بقيت "عسير" أخر معاقل الأتراك، ونتيجة للظروف الإقليمية والدولية نجح في تصفية الوجود التركي فيها، وصولا إلى أقامة الدولة السعودية سنة 1932، التي قامت بمحو منظم لمعالم الحجاز وهويته التاريخية الاسلامية وتراثه الثقافي.

وكان لافتاً  أنه كان لأل سعود جيش عسكري عقيدي يسمونه "الأخوان"، الذي قام بالنيابة عنهم بكل حروبهم للاستيلاء على بلاد الحجاز بالقتل والسيف. وكان الملك عبد العزيز يجبرهم على الاعتراف به إماما عليهم، لكي يضمن ولاء القبائل وبقاءها تحت سيطرته، ولكن كانت نهاية "الإخوان" في العام 1929، عندما قاموا بثورة ضد "الإمام" لآنه توقف عن متابعة "الفتح"، إذ أنهم كانوا يجنون الكثير من عمليات السرقة والغنائم خلال عمليات الغزو. ولم يتمكن ابن سعود بالقضاء عليهم دون الدعم الكبير الذي قدمته بريطانيا فهي تكفلت بتأمين كل شروط النصر العسكري على جيش الإخوان، فأبقت العراق والكويت على الحياد، ووضعت قوة كبيرة على حدود الكويت الجنوبية وأجبرت "الثوار" على الاستسلام. ومع قيام الدولة السعودية بدأت تختفي لهجة التكفير على المستوى السياسي، وإن بقيت حاضرة في الأدبيات العقدية الوهابية، وتبنى الملوك السعوديون خطابا دينيا عاما، تبرز فيه نبرة الإيحاء بـ"النبوة والإمامة" والتكرم على الرعية بالبقاء وإعطاء الحياة.

وثيقة تاريخية تثبت تخلي ال سعود عن فلسطينوهنا بيّن الكاتب أن الانجليز اعتنوا بابن سعود كقوة مناوئة للعثمانيين وساعدوه على الإستيلاء على إقليم الحسا. قَبِل حمايتَهم، ثم أصبح "السير عبد العزيز بن سعود" في 1916 وبعدها ونال وسام "فارس الإمبراطورية". بعد انهيار الدولة العثمانية في 1918، أكمل سيطرته على مناطق عديدة وحاصر في 1921 الكويت (التي عاش فيها لاجئا). اعترف الانجليز به في مؤتمر القاهرة سلطانا على نجد وتوابعها، وطلبوا منه احترام حدود العراق والأردن؛ وفي الوقت نفسه كانت حملات نهب "الإخوان" قد وصلت قرب عَمّان، قبل أن تصدهم الكتيبة العربية والطيران الانجليزي. ثم قام بغزو الحجاز ودخلوا مكة في 1924 بعد هروب الهاشميين (الذين حكموها منذ 1073)، وهم يشعرون بمرارة شديدة لعدم مساندة الانجليز لهم. وأصبح بن سعود "ملك الحجاز".

التشدد الديني .. الثورة والدولة :

بعد قيام الدولة السعودية سنة 1932، بدأ التشدد الديني يأخذ أشكالا جديدة، فبعد أن كان موجها إلى الخارج بات مطلوبا في الداخل لترسيخ أسس السلطة السعودية. وأبطلت مفاعيل العقيدة التكفيرية العسكرية واستمر الحال حتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي، حين ظهرت حركة "جهيمان العتيبي" في مكة المكرمة والتي مثلت امتدادا تاريخيا وعقديا واثنولوجيا لجيش الاخوان، والتي شككت بالتزام ال سعود بتعاليم الوهابية، وتحديدا في مبدأ "الجهاد". فاصطدم مع حكومة ال سعود التي قامت بتصفية قياداته، ولما لم يكن ذلك كافيا استوعبوه ضمن جهاز بيروقراطي عرف باسم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، لارغام الناس على الالتزام الديني على الطريقة الوهابية، وتاليا على تثبيت دعائم السلطة السعودية. وفي العام 2009 انبرى وزير الداخلية أنذاك الأمير نايف للدفاع عن التشدد الديني المتمثل بهذه الهيئة، وأنها تأسست بأمر من الله. ولكن نشرت تقارير تفيد عن هبات الأمراء الكبار لهذا الجهاز  لاعتبارها رديفاً للأمن.

نشر الدعوة في الخارج :

أطلق الملك فهد العنان للتيار السلفي الوهابي في بداية الثمانينات فأصبح كونيا لمواجهة أثار الثورة الإسلامية التي نجحت بشكل باهر في إيران، وقيل إن حجم الأموال التي أنفقتها الحكومة السعودية على نشر الوهابية كان كبيراً للغاية. وبحسب ديفيد أوفهوسر، مستشار سابق في وزارة المالية الأميركية في يونيو 2004 فإن تقديرات إنفاق الحكومة السعودية على نشر المذهب الوهابي في العالم تجاوز مبلغ 75 مليار دولار، فيما قال ادوارد مورس، محلل نفطي في شركة هس لتجارة الطاقة بأن الملك فهد خصص حساباً نفطياً يقوم بموجبه بحجز مائتي ألف برميل في اليوم أي ما يعادل 1.8 مليار دولار في العام بحسب مستوى الاسعار في عقد الثمانينات، وهناك تقديرات تفيد بأن السعودية كانت تنفق ما بين مليارين ومليارين ونصف سنوياً على نشر الوهابية في العالم.

ولقد حاولت السعودية التنصل من أي دور لهم في نشأة تنظيم "القاعدة" ودعمه، وأتت تقارير عديدة أميركية وأوروبية تكشف عن دور المؤسسات السعودية، التجارية منها والخيرية، وأثرياء سعوديين ورسميين في دعم نشاطات القاعدة في الغرب تحت غطاء دعوي، إذ كانت قد وضعت خطة لنشر الوهابية في العالم، بما فيها العقائد المتشددة التي تصم المجتمعات الغربية بالكفر وتحرض على الكراهية والعنف. وحتى نهاية التسعينيات كانت لدى منظمة الندوة الإسلامية أكثر من 450 منظمة شبابية وطلابية موزعة على القارات الخمس، تستهدف نشر الوهابية، كما عمدت السعودية غلى تمويل بناء 200 كلية دينية و 210 مركز إسلامي و1500 مسجدا منها 1345 مسجدا في عهد الملك فهد و2000 مدرسة للأطفال في الدول الإسلامية، كما هو مثبّت في الموقع الشخصي للملك فهد على الانترنت.

وأحصت جريدة عين اليقين بعد الجهات التي تمولها الوهابية على مستوى العالم فعلى سبيل المثال تمويل مشروعات إنشاء 210 مركزا إسلاميا و 1500 مسجدا و 200 كلية إسلامية و 2000 مدرسة في العالم،. وكذا مولت السعودية بالكامل إنشاء مراكز ثقافية إسلامية، إثباتا لكرمها "الثقافي"، في روما (تكلف 50 مليون دولار دفعها الملك فهد شخصيا، وشُيد على بعد خطوات من الفاتيكان، بينما تحظر السعودية مجرد الصلوات لغير الإسلام على أراضيها) وكذا في برازيليا وتورونتو ونيويورك وجبل طارق وجنيف ومدريد ولندن وضواحي باريس ولشبونة وفيينا ومدن استراليا الخ... المراكز الثقافية الإسلامية تديرها عناصر دعوة وهابيين.
ويؤكد الكاتب أنه يمكن القول بناء على معطيات عدة، إن التشدد الديني السلفي يمثّل ضمانة أساسية ليس لإسلامية الدولة السعودية بل لسلامتها واستقرارها ومشروعيتها، على الأقل وسط البيئة التي احتضنتها اكثر من اللازم.

جبهة النصر التابعة للقاعدة في العراقفإن وجود حليف ديني متشدد مدجج بأيديولوجية صارمة، ويتمتع بقاعدة شعبية متحفزة لمقاتلة الخصوم في الداخل والخارج، مثّل على الداوم حصانة للدولة، ما أملى عليها الإبقاء على مصادر شحن التشدد الديني، الذي كان يعمل في فترة ما محليا ضد قوى التغيير والإصلاح، ثم انتقل بمعاركه ضد الدول المصنفة باعتبارها معادية، مثل العراق وإيران سوريا وحتى حركات سياسية دينية مثل حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان.

ويؤكد العديد من الباحثين أن أخطر الحركات الدينية على الإطلاق هو الوهابية السعودية. فالحديث عن الوهابية فقط خطأ علمي، بل يجب استخدام مفهوم الوهابية السعودية: وهي بذلك تعني التحالف التاريخي بين السلطة السياسية المالية ممثلة في ابن سعود والسلطة الدينية ممثلة في ابن عبد الوهاب. التقاؤهما شكل هذا المذهب. وقوتها تكمن في ثروتها البترولية الهائلة. فقد تم الإنفاق على هذا المذهب، طيلة ثلاثين سنة، أكثر مما صرفه الاتحاد السوفيتي طيلة قرن. وأنتجت القاعدة وأسامة بن لادن وإرهابهما. وهي تمول اليوم عشرات القنوات التلفزيونية والصحفية التي تعمل على تخريب العقل العربي. والجزائر أول من ذهب ضحية بذلك بنحو 200 ألف شهيد. تمّ خداع الشباب العربي منذ بداية الثمانينات بأن روج هذا الإعلام بوجود ملائكة خضر تقاتل ضد الاتحاد السوفياتي... وقع جزائريون وعرب كثيرون في هذا الفخ القاتل.

لكن من المضحك أن الإعلام نفسه لا يحدثنا اليوم عن هذه الملائكة الخضر في أفغانستان ولا في العراق ولا في فلسطين. لأنها لا تظهر أبدا. فرت من المعارك الحقيقية ولم "تتشطر" إلا على الاتحاد السوفياتي، صديق العرب. إنها مديونية المعنى التي شقّت درباً جديداً، تضفيه الوهابية ـ السعودية على رؤيتها الكونية ومشروعها الدينيوي (الجامع بين الدين والدنيا). برؤية أخرى، إنه المقدّس الذي يضفي على العنف معنى متعالياً، ويخرجه من دائرة المسائلة الدنيوية، ويهبه صفة تمثيل الحقيقة، حيث تكتمل الثلاثية الوظيفية، بحسب محمد أركون.

فالرابطة الوثيقة بين الرؤية الأيديولوجية المؤسسة على تكفير المحيط المجاور، والمشروع السياسي المحمول على تلك الرؤية صمّمت شكل التحالف الاستراتيجي بين العلماء والأمراء، ورسمت أيضاً طبيعة الأدوار المنوطة بكل منهم في سياق العمل الدؤوب لناحية إدخال الرؤية حيز المشروع العلمي. وفق هذا الترتيب، حقّق العلماء والأمراء تجانساً نموذجياً لجهة تقاسم الأدوار أول مرة، ولتوحيد الرؤية العقدية ومملياتها العلمية مرة أخرى. إذ لا يمكن الفصل، والحال هذه، بين الموقف التيولوجي لدى العلماء عنه لدى الأمراء، إذ لم يكن بإمكان الأخيرون إعلان الجهاد إلا بعد أن يصدر العلماء حكمهم الديني في المجتمعات المستهدفة. بل نجد في حالات كثيرة أن العلماء والأمراء يتقاسمون مهمة صوغ الحكم الديني، كما تخبر رسائلهم إلى البلدان، وعلماء المذاهب الأخرى، وولاة الأقطار العربية. ما نسعى للإضاءة عليه هو أن التكفير كان أساس الغزو، ولا غزو إلا بعد تكفير، على الأقل هكذا كان حال أغلب الغزوات التي تمّ تجريدها ضد المناطق منذ الدولة السعودية الأولى وصولاً إلى الدولة السعودية الثالثة.

السعودية الليبرالية :

بشكل يعاكس تاريخ نشوء التيارات الليبرالية في الشرق الأوسط والعالم فإن نشاة التيار الليبرالي في السعودية تمّت في سياق التحولات التي شهدتها  الدولة عبر برامج التحديث. ومع نشأة الدولة السعودية الحديثة العام 1932، برزت تحدّيات جديدة، أفرزتها التحوّلات القهرية التي شهدتها الدولة على مستويات إجتماعية واقتصادية وسياسية. وكان من الطبيعي أن تنجب برامج التحديث جنيناً ليبرالياً، وإن بدا غير مكتمل النمو، ولكّنه شكّل هويّته الخاصة داخل الدولة، رغم محاولاته الإنفصال عنها. لم تسمح الدولة لهذا الجنين أن ينمو خارجها، درءاً لتداعيات مستقبلية تدركها جيداً، فقد تنبّهت منذ وقت مبكر إلى أنها تنزع إلى استيراد التكنولوجيا من دون أيديولوجيا، أي التعويض عن الحداثة بالتحديث، رغم أن غاية ما يمكن لخيار من هذا القبيل تحقيقه هي تأجيل المفعولات الثقافية والسياسية لبرامج التحديث.

كان بإمكان الدولة أن تستوعب الإتجاه الليبرالي القابل لأن يكون عضداً لها، بعد إخفاقه في التحرر من قبضتها، ولكنها اختارت أن تنجب نموذجها الليبرالي الخاص، بإعادة تأهيل طفولي للأيديولوجية المشرعنة لها، أي إنتاج ليبرالية سلفية، مصمّمة لدفع تهمة ارتباط التطرّف الديني بمنابع محلية. الليبرالية السلفية بكل التناقض التام في بنية ثنوية كهذه، ورداءة النموذج المتولّد عنهما، حملت رسالة متضاربة، فهي متشدّدة في الداخل متسامحة في الخارج.

على أية حال، فإن محاولات التوليف لا تقتصر على مجرد احتواء أخطار خارجية أو تطوير نموذج داخلي، غير ممكن إلا بإجراء جراحي، بل هي تعبير أيضاً عن تجاذب خفي بين أهل الدعوة وأهل الدولة. فقد اختار كل منهما أن يعيد تظهير نفسه، وكل وفق طريقته وحساباته الخاصة، فالديني السلفي، وخصوصاً الصحوي، إختار لهجة الإعتدال لمحاكاة تحوّلات لا يمكن بخطاب متشدّد أن يعبرها بأمان، وكذلك اختار السياسي أن ينجو بدولته من آثام الإرهاب عبر تصنيع خطاب ديني معتدل. ولكن بين النزعتين، يضطرم النزاع بين من يريد الدعوة رافعة للدولة، ومن يريد الأخيرة أداة تبشير بالدعوة. ومن هنا ينبعث سؤال التشدّد الديني بحثاً عن هوية صانعه، والمستفيد والخاسر منه، لنعبر بعد ذلك إلى الحديث عن معضلة المشروعية الدينية التي لا يمكن إنجازها إلا وفق شروط يحدّدها الديني السلفي، فتنبجس في لحظة ما عن انشقاقات متوالية من ثنائية السلطة. وفي ظل وجود شخص ما داخل العائلة المالكة من يعتقد بأنها ملزمة باحترام السلفية بشكل دقيق، تصبح إمكانية التسوية قائمة على الدوام.

تبدّل آخر نلحظه في مسار مشايخ الصحوة، الذين بدّلوا وجهة سيرهم السياسي، وقبلوا خيار العبور بالدعوة إلى الدولة على إيقاعات ثقافية معصرنة بدرجات متفاوتة، بغرض إزالة آثار الصخب الصحوي والمشاغبة السياسية المكلفة، والتموضع في خانة الكتيبة المؤهّلة لتمثيل أيديولوجية الدولة في طورها الجديد.

من المطارحات الليبرالية في السعوديةولا تزال المملكة تعيش صراعاً محموماً شغل الرأي العام و أنهك البلاد إنه الصراع الفكري بين التيارين إلإسلامي واللليبرالي داخل المجتمع السعودي. فقد نشأ التيار الليبرالي في السعودية على خلاف ما نشأت عليه التيارات الأخرى في الشرق الأوسط حيث أن نشأته كانت ضمن سياق التحولات التي شهدتها الدولة عبر برامج التحديث الخجولة .

وفي الخمسينيات من القرن الماضي بدأ الإنفتاح الإجتماعي عبر العمال الوافدين العرب و الأجانب ورافقها البعثات التعليمية إلى الجامعات العربية و الأجنبية ، الأمر الذي ساهم في تهيئة ظروف ملائمة لولادة التيار الليبرالي الذي استمد قوته من حركة التحولات التي شهدتها الدولة .وكان المجتمع  السلفي أول من شعر بخطورة ولادة ذلك التيار الذي بدأ يتمدد على حساب مجالاته السيادية التي كانت حكراً عليه لفترة طويلة من الزمن كالتعليم و القضاء .

وعارض علماء الوهابية نشأة المدارس الحديثة خشية تحولها إلى منافد لتسرب علوم الكفار  و الصليبيين  وبدأ الخلاف يدب بين العلماء و الأمراء بعد اندماج القوانين الحديثة في النظام القضائي . ومع إطلالة التسعينيات بدأ التيار الليبرالي ينشط سياسياً عبر عريضة قدمها قادة التيار للملك فهد بن عبد العزيز مطالبين بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية وقضائية .و لم تكن الليبرالية تواجه تحدياً مع الدولة ولكنها واجهت تحديا من نوع آخر وهو التشدد و التطرف الديني المتمثل في التيار الوهابي الذي يقف صخرة صلداء في وجه الإصلاح و التطور و التغيير .

ومضى الليبراليون يواصلون دعواتهم بتقليص دور المؤسسة الدينية المتمثلة في الشرطة الدينية "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"مما دفع العديد من علماء السلفية إلى إبداء سخطهم من تدهور الوضع الديني في المجتمع . وكسر الليبراليون بعض المحرمات الثقافية و الفكرية من خلال ممارسة فكرية ناقدة للرؤية الدينية المحافظة حيال بعض الموضوعات الثقافية و الفنية حينما أطلق الملك فهد العنان للتيار السلفي في بداية الثمانينات لمواجهة آثار الثورة الإسلامية في إيران .

ورغم وصول أعضاء التيار الليبرالي إلى مناصب عليا في أجهزة الدولة إلا أن ذلك لم ينجه من غضب التيار السلفي الذي أخذ يرقب نموه المرفوض في جسد الدولة . وخضعت الليبرالية إلى الإنقسام على أساس اجتماعي ومذهبي وسياسي و تحولت إلى مجرد ممارسة ثقافية شكلية مما جعله عقيمة على المستوى السياسي ، وكان نتاج ذلك الإنقسام أن تشكلت ليبرالية نجدية و أخرى حجازية و ثالثة إسلامية سنية و  شيعية. هنا بقي التيار الليبرالي أسير نرجسية مفرطة ، الأمر الذي جعل الحكومة في مأمن من تأثيرات السياسة ، وبلغت به الهشاشة حد الإستعداد للتنازل عن قناعاته من أجل الإرتهان لمواقف العائلة الحاكمة .

في الحسابات السياسية الشكلية. إنّ صناعة الارهاب دولياً تتيح لدول كثيرة تعيش النمط الخليجي والمغربي والأردني أن تبدو الصورة المعتدلة والمقبولة للحكم عالمياً، وحتى محلياً، في مواجهة التطرف الارهابي من جهة والميول الاجتماعية الجذرية من جهة ثانية. وهذا واحد من أكبر الإشكالات التاريخية التي تواجه المجتمعات العربية. فقد جرى حصر الصراع بين بديلين: الارهاب التكفيري من جهة ونظم الحكم المتخلفة تاريخياً من جهة أخرى. حتى الغرب الديموقراطي مال إلى هذه المعادلة التي أضحت في النهاية رصاصة الموت لأي تغيير عربي باتجاه ديموقراطي. بهذا تكون السعودية العدو الأول المعوق لحركة التاريخ العربي المعاصر.

رابط الحلقة الثانية: http://www.almanar.com.lb/adetails.php?eid=732114&cid=41&fromval=1&frid=41&seccatid=518&s1=1

رابط الحلقة الأولى :http://www.almanar.com.lb/adetails.php?fromval=2&cid=518&frid=41&seccatid=518&eid=730728