28-03-2024 12:42 PM بتوقيت القدس المحتلة

اليونان تنتظر الثمار المرّة .. وأوروبا لم تنكّس أعلامها

اليونان تنتظر الثمار المرّة .. وأوروبا لم تنكّس أعلامها

كأنك تزور معسكر من خسروا لتوّهم نهائي كأس العالم. كانت أجواء الحداد واضحة لأي متجوّل في أروقة المؤسسات الأوروبية.


وسيم ابراهيم

كأنك تزور معسكر من خسروا لتوّهم نهائي كأس العالم. كانت أجواء الحداد واضحة لأي متجوّل في أروقة المؤسسات الأوروبية.

صحيح أنه لم تنكّس الأعلام الزرقاء مع دزينة نجومها الصفراء، لكن من يمثّلون التكتل الأوروبي فضّلوا التواري عن الأنظار. تركوا عبء الحديث للمفوض المختص باليورو، ليقول إن تعويض الخسارة اليونانية سيكون «معقّداً جداً».

هكذا بدت الأجواء داخل مقر مفوضية الاتحاد الأوروبي، بعد الهزيمة الديموقراطية الثقيلة التي ألحقها اليونانيون بسياسات التقشّف. الكل بات يعرف أن ما قبل الاستفتاء، ليس كما بعده. لكن تحكّم معادلات القوة، داخل تكتل العملة الموحّدة، جعل المفارقة ناصعة: أن تربح النهائي لا يعني أن تحصل على الجائزة.

الجميع «خاسر» في اللعبة، جملة يواظب على ترديدها كبار المسؤولين الأوروبيين. لهذا برأيهم ما كان ينبغي أساساً إقامة هذه المنازلة الديموقراطية المحرجة. الجائزة بيد 18 دولة هي شريكة اليونان في اتحاد العملة، ولا يمكن صرفها إلا بموافقة الجميع، على رأسهم ألمانيا أكبر المساهمين فيها. ما يجعل الأمور أكثر تعقيداً أن بعض أعضاء النادي، المأزومين اقتصادياً، يقولون «لا أحد أحسن منا»، طالما أن المباريات الديموقراطية تجلب أيضاً جوائز مزيد من التأييد في الانتخابات الوطنية.

كل هذا جعل الوصول إلى تسوية تنتشل اليونان وتنهي التهديد الوجودي لليورو، أمراً بالغ الصعوبة. ترجمة الفوز اليوناني، والخسارة الأوروبية، في اتفاق متوازن يشبه حلّ معضلة سياسية. حكومة اليونان تلقّت تفويضاً قوياً من الشعب كي تخرجه من دوامة التقشف المؤلم، لكن بروكسل وبرلين تقولان إن الاتفاق ممكن فقط مع آلام أكبر.

على الجبهة الأولى الاستعصاء مكتمل: إذا قبل رئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس التوقيع على هذه الشروط، سيكون أمام مهزلة سياسية يلخصها تساؤل كل من دعموه في الاستفتاء: إذا كانت هذه هي الجائزة فلماذا أخذتمونا إلى هذه المواجهة في الأصل؟

أبرز التعليقات التي عبّرت عن هذه الخلاصة هي ما قاله رئيس الوزراء البلجيكي السابق غي فيرهوفستات، وهو رئيس كتلة الليبراليين في البرلمان الأوروبي. كتب تعليقاً مأتميّاً على موقعة أثينا: «فاز تسيبراس في الاستفتاء داخل وطنه، لكنه فقد مصداقيته في بقية أوروبا»، مضيفاً «هناك ما هو على المحك أكثر من مستقبل اليونان، وهو مستقبل أوروبا».

على الجبهة الأخرى، المأزق لم يكن أوضح من الآن: شعب أوروبي، يرفض ديموقراطياً التقشف، ليواجه تهديدات بقية دول التكتل المتغنّي بقيم الديموقراطية. مقابل الخسائر المالية المؤكدة من إخراج اليونان من اليورو، هناك خسائر سياسية لمشروع الاتحاد الأوروبي لكون اليورو نواته الصلبة. فوق ذلك، هناك مخاطر انتقال عدوى نجاح حكم اليسار إلى دول أخرى، خصوصاً اسبانيا. كل هذا، على تعقيده، يبقى مجرد عناوين عريضة لتشابكات وضعت أوروبا في متاهة.

هذا المناخ الثقيل كان أحد مظاهر الحداد الأوروبي. كان هناك حرص شديد على إظهار طفحان الكيل. رئيس منطقة اليورو يارون دايسلبلوم لم ينطق حتى بكلمة «نحترم» الاستفتاء، كي لا يقال نرحب بنتائج الديموقراطية. اكتفى بترديد العبارة الأوروبية الأكثر شيوعاً «أخذنا علما»، قبل أن يقول متوعداً إن النتائج «مؤسفة جداً بالنسبة لمستقبل اليونان».

كرة اللهب هذه وضعت الآن في أيدي أعلى مستوى سياسي، ليكون القرار بيد زعماء تكتل العملة الموحدة في قمتهم المصيرية اليوم. عليه الإجابة على سؤال جوهري: نريد اليونان داخل اليورو مع تحمّل خسائر هزيمة الاستفتاء، أم نريد إخراجها مع المخاطرة بوضع مستقبل العملة الموحدة أمام المجهول؟

المأزق الذي يقيم فيه الجميع، جعل اللعبة الجيوسياسية الأكبر تدخل الحسابات. ليس هناك أي معنى آخر للاتصال الذي أجراه تسيبراس مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كان الرجلان التقيا في اجتماع مغلق، لم يخرج الكثير من تفاهماته، حين زار تسيبراس موسكو في نيسان الماضي. في الأساس تبدي حكومة اليونان تعاطفاً مع روسيا، كما ظهر بوضوح خلال نقاشات تمديد العقوبات الأوروبية عليها. بوتين لا يمانع، بالتأكيد، أن يكسب حليفاً داخل معسكر خصوم الأزمة الأوكرانية المتواصلة.

يوم الاستفتاء، قبل اتصال الزعيمين، كانت «السفير» تتحدث إلى أحد المقربين من أوساط تسيبراس. قال المصدر إنه تحدث مطولاً مع من لم يتوقفوا عن زيارة موسكو. الانطباع الذي خرج به أن حزب «سيريزا»، الحاكم لليونان، لديه «خطة بي» (بديلة) لمواجهة حالة طوارئ. كان يشير تحديداً إلى تعهدات روسية بأن الكرملين «لن يترك اليونان وحيدة»، في حال اختار كهنة المشروع الأوروبي رميها خارج اليورو.

البيان الذي أصدره الكرملين بعد المحادثة الهاتفية تحدث عن المغزى نفسه. بعبارات مقتضبة وواضحة، قالت موسكو إن بوتين «عبّر عن دعمه للشعب اليوناني في التغلب على الصعوبات التي تواجه البلد»، موضحة أن حديث الزعيمين دار حول «مزيد من تطوير التعاون الروسي - اليوناني».

أي دعم هذا وأي تعاون؟ في اللحظات المصيرية، تصير كل كلمة، أي كلمة، عالية الكلفة. لذلك لم يظفر تسيبراس بأي من تلك الكلمات، بعدما تحادث مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. الأخيرة تحت ضغوط كبيرة الآن، تدفعها لقبول مبدأ إخراج اليونان. واشنطن تقول للأوروبيين لا تفعلوا هذا. يدرك البيت الأبيض أن إدارة الظهر لأثينا ستجعلها تتجه مباشرة للتحالف مع روسيا، فضلا عن التقارب مع الصين. هذا التهديد يضاف إليه قلق أميركا على هزة جديدة للاقتصاد العالمي، تجعلها تفقد مكتسبات التعافي من الأزمة المالية.

التفاصيل التي تلت زلزال الاستفتاء اليوناني كثيرة، لكن العناوين بقيت ذاتها مع احتمالات انفراج ضئيلة. ميركل زارت نظيرها الفرنسي فرانسوا هولاند، لتجري في باريس محاولة الخروج بتفاهم يُنقل إلى قمة زعماء اليورو. وأكدا أن الباب مفتوح لاستئناف المفاوضات مع اليونان بشأن ديونها، ولكنهما طالبا تسيبراس بمقترحات واضحة وجدّية.

باريس أقل تشددا حيال أثينا، وتقول إن هناك «أرضية» يجب بناء اتفاق عليها. برلين موقفها معاكس. تقول إن الزعيم اليوناني، حين اختار الاستفتاء، قام بـ «قطع آخر الجسور»، وفق كلمات زيغمار غابرييل، نائب المستشارة ورئيس الحزب الاشتراكي الديموقراطي.

كان واضحاً أن مهمة إظهار موقف برلين تركت لغابرييل، الشريك في الائتلاف الحاكم الفولاذي بين حزبه وحزب المسيحيين الديموقراطيين. مع حديث بات واضحاً أن احد المخارج المطروحة، ولو مؤقتا، هو الموافقة على تقديم تمويل طارئ لليونان، لكن تحت مسمّى «مساعدة إنسانية». يسوّغ ذلك المصاعب المتزايدة أمام اليونانيين. لكن المصارف اليونانية ستستمر في إغلاقها، مع قرار البنك المركزي الأوروبي عدم زيادة مستوى التمويل الطارئ الذي يقدمه. هذا القرار بعدم زيادة التمويل، يعني تداعيات تمتد من مواصلة خسائر الإغلاق، مع إمكانية إصدار عملة موازية، وصولا إلى انهيار كامل يقود للخروج من اليورو بحكم الأمر الواقع.

الخيارات مفتوحة. زعماء اليورو الممتعضين قالوا إن ردّ فعل الأسواق المالية أظهر «إمكانية الاحتواء». معنى كلامهم أن إخراج اليونان لن يعني عواقب «كارثية» تهدد وجود العملة الموحدة. هذه المحاججة هي ما تستند إليه برلين بوضوح. نائب المستشارة الألمانية قال إنه لا يمكنهم تقديم أي تساهل أو تخفيف للدين لأن «دول اليورو الأخرى ستطلب أيضا» ذلك. الحل الوحيد، وفق طرحه، أن يقدم تسيبراس مقترح صدمة إيجابية، يمكنه وحده إنعاش قلب المفاوضات المتوقفة: «عليهم تقديم مقترح يتجاوز ما قدّموه سابقاً».

تقديم هكذا مقترح هو مجازفة سياسية بمستقبل الزعيم اليوناني. الكلام الألماني يعني أن على تسيبراس تقديم مقترح يتضمن تقشّفا يفوق ما رفضه اليونانيون أصلاً في الاستفتاء. طبعاً، يمكن مقايضة هكذا شروط، مصاغة بدقة، لكن مع ضمانات لشطب قسم معتبر من الديون اليونانية، خصوصا بعدما أقرّ صندوق النقد الدولي أنها غير قابلة للدفع. لكن بروكسل وبرلين ترفضان علنا هذا المخرج، على الأقل حتى الآن. لكن وزير الاقتصاد اليوناني جوجيوس ستاناكيس قال إن شطب الديون هو «جزء مهم جداً» من المقترح الجديد، الذي يحمله تسيبراس إلى قمة زعماء اليورو.

ترتيب الخطوات العملية القادمة بات معروفاً. يجب على منطقة اليورو إعطاء موافقتها للتفاوض حول خطة إنقاذ جديدة. هذا الإيعاز سيعني أن المفوضية الأوروبية يمكنها أن تنطلق لقيادة التفاوض. كل هذا لا يمكن أن يتم قبل أن يقدم تسيبراس مقترحه، ويقبله زعماء اليورو من حيث المبدأ. حينها سيقدم المساهمون في خطة الإنقاذ الجديدة تقييمهم العام، بالنسبة لوضع اليونان المالي والمقترح الذي قدمته حكومتها والشروط المطلوبة. برلين توعدت بأن هكذا خطة ستطبّق فيها معايير صندوق الإنقاذ الأوروبي، المعروف بالشروط القاسية بالنسبة لرفض الضرائب والتقشف عموما.

تسيبراس يأتي إلى بروكسل مسلّحا بالانتصار في الاستفتاء، وأيضا بدعم قادة المعارضة الذين حرص على لقائهم أمس. واتفقت الأحزاب اليونانية الرئيسية على تشكيل جبهة مشتركة للمفاوضات مع الدائنين، مشددين على انه يجب ألا يتم تفسير الاستفتاء على انه «قطيعة» مع أوروبا. ولتسهيل الأمر أيضا، قرر «استقالة» وزير ماليته يانيس فاروفاكيس، المكروه خصوصا من وزير المالية الألماني فولفغانغ شوبل.

تلك المبادرات لإظهار رغبته في البقاء في اليورو، لم يقابلها شركاء اليورو بالأحضان. هناك تعليقات أظهرت بوضوح الميل الغالب في برلين راهناً. منها ما كتبه ستيفان كورنليوس، محرر الشؤون الخارجية في أكبر صحف ألمانيا «زودويتشه تسايتونغ». قال معلقا على نتائج الاستفتاء: «وصلت اليونان إلى نهاية رحلتها في اليورو مع هذه الخطوة»، قبل أن يضيف «ولأسباب الحماية الذاتية بات من الواجب على بقية منطقة اليورو أن تقود اليونان إلى الباب». القرار الآن في يد القادة: الاحتمال وارد جدا، لكن المجازفة كبيرة أيضا.

assafir.com

موقع المنار غير مسؤول عن النص وهو يعبّر عن وجهة نظر كاتبه