28-03-2024 11:23 PM بتوقيت القدس المحتلة

محمدو ولد صلاحي... رسائل من جحيم اسمه غوانتانامو

محمدو ولد صلاحي... رسائل من جحيم اسمه غوانتانامو

لا ينكر صلاحي رتباطه بـ «القاعدة»، لكنه ينفي نفياً قاطعاً أي علاقة له بالهجمات في 11 أيلول على برجي مركز التجارة العالمي، فيقول: «كنت أدرك أنني أقاتل مع القاعدة لكن القاعدة حينذاك لم تكن قد شنّت الجهاد ضد أميركا.

«يشبه الخاطفين والإرهابيين الكبار في كل شيء». رغم عدم القدرة على إثبات أي تهمة ضده، فإنّ السجين الموريتاني لا يزال قابعاً في المعتقل الأميركي الرهيب. الترجمة العربية لرسائله من داخل السجن صدرت أخيراً عن «دار الساقي» (تحرير لاري سيمز ــ ترجمة: عمر رسول) بعدما أثارت ضجة عالمية

عبدالرحمن جاسم/ جريدة الأخبار

غلاف كتاب غونتانامويضمّ «يوميات غوانتانامو» (2015) الذي انتقل أخيراً إلى المكتبة العربية عن «دار الساقي» (تحرير لاري سيمز ــ ترجمة: عمر رسول) رسائل لمحمدو ولد صلاحي (1970) من معتقل غوانتانامو. يعدّ صلاحي المعتقل الموريتاني الأشهر حالياً في السجن الرهيب؛ وهو لما يزل في ذلك المعتقل حتى لحظة صدور الكتاب. ووفق ما يظهر الكتاب، فإنَّ الرسائل تمت قراءتها من أكثر من جهةٍ أمنية أميركية وتم التعديل عليها وحذف أي مقطعٍ – باعتقادهم- من شأنه التأثير في سير القضية أو الإفصاح عن أي معلوماتٍ تعد «سريةً» حتى الآن.


«غوانتانامو» اسمٌ يختصر كثيراً من الرعب حين يحضر في أي حديث، فكيف إذا كان كتاباً مكوناً من رسائل لا يزال كاتبها يعيش في ذلك السجن الرهيب؟ يقع السجن الأكثر «شهرةً» في العالم في الجزيرة الكوبية ضمن أرضٍ تسيطر عليها الولايات المتحدة، ويقبع في زنزانة السجناء الأخطر والأشرس والأكثر عداءً لـ «أميركا».

يتكون «يوميات غوانتانامو» من رسائل بعثها السجين محمدو ولد صلاحي الذي لا يزال قابعاً هناك من دون تهمةٍ واضحة حتى إن إحدى المحاكم الأميركية كانت قد أصدرت قراراً يقضي ببراءته (وإطلاق سراحه حكماً) إلا أنَّ إدارة الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما أصرت على الإبقاء عليه سجيناً لضغوطٍ شعبية وإعلامية عليها بحسب ما يرد في الكتاب (في إشارة إلى عنوان صحيفة «نيويورك ديلي نيوز» في 23 آذار/ مارس 2010: «دعوا باب الزنزانة موصداً: مناشدة القاضي الغاضب رولينغ لإطلاق سراح سفّاح الحادي عشر من سبتمبر»). الصحيفة كما الجميع مقتنعة بأن الرجل هو «أحد أبرز المتطوّعين في هجمات الحادي عشر من سبتمبر» وإن لم يكن قد فعلها.

ولد محمدو صلاحي في مدينةٍ موريتانية صغيرة تدعى روسو تقع على نهر السنغال. كان مجداً في دراسته، ما مكّنه من الحصول على منحةٍ دراسيةٍ كاملة التكاليف من جمعية «كارل دويسبرغ» لدراسة الهندسة في ألمانيا (بحسب مقال لصحيفة «دير شبيغل» الألمانية في عام 2008). مكث هناك طوال سنين الدراسة لكنه فشل في الحصول على إقامة فيها، فأقام في كندا لفترة، حيث بدأت أموره «الأمنية» تتعقّد. اضطره هذا للعودة إلى موريتانيا والعمل في عاصمتها نواكشوط كمهندس كهربائي إلى أن طلبت منه الشرطة الموريتانية الذهاب إلى أحد مراكزها للتحقيق معه.

يطرح الكتاب السؤال حول علاقة صلاحي بتنظيم «القاعدة»

كان الاستدعاء هذه المرة للتحقيق معه في ما سمي «بمؤامرة الألفية». ومؤامراة الألفية هذه حدثت إبان إقامته في كندا وتحديداً مونتريال (عام 1999) حيث عمل كإمام لجامع السنّة الكبيرة في المدينة (بصفته حافظاً للقرآن الكريم). آنذاك، اعتقل مهاجرٌ جزائري يدعى أحمد رسّام كان يحاول إدخال سيارة مفخخة بالمتفجرات لتفجير مطار لوس أنجلوس الدولي إبان عطلة رأس السنة. في التحقيقات عُرِف أن رسّام غادر مونتريال التي كان يقيم بها قبل وصول صلاحي إليها، ولكن استعمال «المسجد» نفسه كقاعدة للقاءات والجلسات مع مَن يعتبرون «شركاء» في العملية، عقّد وضع محمدو كثيراً.

بطبيعة الأحوال لم تثبت التحقيقات شيئاً، لكن الأجهزة الأمنية الموريتانية لم تقف عند هذا الحد بل واصلت التحقيق معه على فتراتٍ متقطعة (خلال عام 2001). وحين لم تجد بداً، سلّمته (يشير في الرسائل إلى أنّه خطف بطريقة سرية) إلى المخابرات الأميركية إلى الأردن، وبعد ذلك إلى «قاعدة باغرام» الأميركية في أفغانستان، ومن هناك بعد أسابيع إلى الجحيم: غوانتانامو.

تشرح الرسائل الواردة من صلاحي الكثير من تفاصيل حياتية صغيرة لرجلٍ لا يمتلك اليوم أكثر من «الوقت»، فسجنه الذي لا تُعرف له نهاية، يجعله أقرب إلى «تأريخ» كل شيءٍ بعد أن يتناوله من أكثر من زاويةٍ في عقله. هو يكتب ويكتب ليحكي قصته للعالم، مؤكداً في الإطار عينه أنه يكتب لا لينال حريته فحسب بل «ليكتب قصته للعالم» ولإظهار براءته. تظهر تفاصيل التفاصيل في الكتاب من خلال روايته للرحلة منذ بداياتها. يصف المطارات التي مر بها، والناس الذين يقابلهم، ولحظات التحقيق والتعذيب واليأس والألم.

معتقل غونتاناموهو يمتلك ذاكرة مميزة تجعله قادراً على حفظ أصغر الأشياء وبدقةٍ بالغة، فيصف أحد الضباط الأميركيين الذين قابلهم: «ضابط جاد، في أواخر الثلاثينيات من عمره، أشقر تماماً، قوقازي الشكل، ذو وجه ناشف، يبدو أنه قد تزوج القضية، رأيته يعمل ليلاً نهاراً وينام في السجن». يتعمق صلاحي في تحليل الأشياء، ويعطيها أبعاداً واعية، ففي حديثه مثلاً عن قيادة السجن، يقول: «في الفوضى البيروقراطية قد يأخذ ضابط قيادة السجن العملية في يده»، ويوجه حتى رسائل مباشرة لقرائه يعرف أنها قد تفيده في قضيته: «أعتقد أن أكثرية الأميركيين يريدون تطبيق العدالة، وألا يجدوا أنفسهم مضطرين لتقديم التمويل المالي لمعتقلين أبرياء في السجن». عذب محمدو كثيراً في السجون التي مر بها، يكتب عن ذلك، ويتناول «معذبيه» بلغةٍ أقرب إلى «النوستالجيا» منها إلى الرغبة في الانتقام، فهو يرغب «بالجلوس معهم حال الانتهاء من كل هذا واحتساء كوبٍ من الشاي معاً بعد الاطلاع على أحوال بعضهم بعضاً» بحسب ما أسر لأحد محاميه، فهو «لا يحمل أي حقدٍ تجاه أي شخص ذكره في الكتاب، بل ويرجو منهم قراءته وتصحيحه إذا ما وجدوا فيه أي خطأ».

يطرح الكتاب سؤالاً حول علاقة صلاحي بتنظيم «القاعدة» بقوةٍ بالغة، حتى أنه يفنّد أسباباً عديدةً لتأكيد ان صلاحي بريءٌ فعلاً. لكن أي قارئ يمكنه ملاحظة عمق ارتباط صلاحي بـ «القاعدة» وبرجالاتها فضلاً عن «علاقته» الروحية الحميمة بأفكار التنظيم السياسية والدينية في آن معاً. أضف إلى ذلك أنه يرتبط بصلة قرابة مع أحد أعضاء مجلس شورى المجاهدين أيام بن لادن وهو الموريتاني محفوظ ولد الوليد المعروف باسم «أبو حفص الموريتاني» (اللافت في كل القضية أن أبو حفص يعيش حراً اليوم في موريتانيا بينما صلاحي مسجون).

لا ينكر صلاحي نهائياً ارتباطه القوي بـ «القاعدة»، لكنه ينفي نفياً قاطعاً (وفي أكثر من تحقيقٍ معه) أي علاقة له بالهجمات في 11 أيلول (سبتمبر) على برجي مركز التجارة العالمي، فيقول في أحد التحقيقات: «كنت أدرك أنني أقاتل مع القاعدة، لكن القاعدة حينذاك لم تكن قد شنّت الجهاد ضد أميركا. لقد أخبرونا بأننا نقاتل ضد الشيوعيين. أرادوا أن يشنّوا الجهاد ضد أميركا في منتصف التسعينيات، ولكن ليست لي أيّ نية في ذلك. لم أنضم إليهم تحت هذه الفكرة، تلك مشكلتهم. أنا بعيد كل البعد عن خط المواجهة بين القاعدة والولايات المتحدة. أنا بعيد عن هذه القضية كلياً».

بدايةً لا يمكن نكران أن صلاحي ترك دراسته العلمية في ألمانيا عام 1991 كي يذهب إلى أفغانستان ليلتحق بمعسكرٍ لـ «تنظيم القاعدة» في مدينة خوست آنذاك لمحاربة الشيوعيين، وبقي هناك سبعة أسابيع مقسماً الولاء لتنظيم القاعدة. تدرب يومها على أسلحةٍ خفيفةٍ فردية، وثقيلة مضادة للدروع أفادته كثيراً في رحلته الثانية عام 1992 حين التحق بوحدةٍ عسكرية كانت تحاصر مدينة كاردز يقودها جلال الدين حقاني. يشير صلاحي هنا إلى أنه بعد سقوط العاصمة كابول بيد المجاهدين، بدأوا بقتال بعضهم، فآثر العودة لأنه لم يكن يريد قتال مسلمين آخرين.

هنا يمكن السؤال: هل استمرت علاقة صلاحي بالقاعدة؟ هو ينفي ذلك بدايةً، لكنه يعود بعد تحقيقات عدة ليتحدث عن علاقته برمزي بن الشيبة، حين زاره بن الشيبة في ألمانيا ومكث عنده أياماً عدة، هناك إذاً علاقةٌ بينهما؛ «لكنها ليست أكثر من علاقة «مكوث» لا أكثر ولا أقل» بحسب الرسائل. يأتي صلاحي –بحسب الأميركيين- «كالسمكة» الكبيرة للإرهاب، إنهم لا يزالون مقتنعين، من دون أي دليل ملموس بأنّه «أذكى وأخطر الإرهابيين المقبوض عليهم» (بحسب أحد المحققين مع صلاحي) فهو بحسب كلامهم: عربي وشاب وذهب إلى الجهاد ويتكلم لغاتٍ أجنبية وزار بلداناً عديدة وخريج تدريب تقني، لذلك فهو «يشبه الخاطفين والإرهابيين الكبار في كل شيء».