29-03-2024 03:08 PM بتوقيت القدس المحتلة

وثائقيات بعدسة الإسرائيليين: فلسطين ليست أرضنا

وثائقيات بعدسة الإسرائيليين: فلسطين ليست أرضنا

قبل نهاية الشريط، ينظر أحد الشبان إلى الكاميرا ويوجه رسالة من ألمانيا - هي للمفارقة تستقبل عدداً كبيراً ممن غادروا اسرائيل- إلى أهله يقول لهم "ماذا تفعلون هناك، إنها ليست أرضنا، الجميع من حولنا يكرهنا...".

أصبح معلوماً ما يعانيه الجنود الإسرائيليون على المستوى النفسي بعد كل حرب ومواجهة يخوضونها في فلسطين أو لبنان. تقارير عدة نشرت عن لجوئهم إلى علاج نفسي وإلى مهدئات الأعصاب، فيما الأثر الأبعد من ذلك يتمثل في فقدانهم الثقة والتشكيك مجدداً في كل القيم والقضايا التي اخترعها الإحتلال منذ جيل النكبة الأول، وصولاً الى التشكيك بصوابية البقاء في ما يسمى "أرض الميعاد".

محمد همدر/ جريدة الأخبار

To See If I'm Smilingفي الفترة التي تلت عام 2000، ارتفعت بعض الأصوات مجدداً في الداخل الإسرائيلي مشككةً ومعترضة على نتائج التجنيد والحروب والمواجهات على الحدود وفي الداخل. تشكّلت بعض الجمعيات المحلية التي تنشط في أوروبا تحديداً، للمطالبة بإلغاء التجنيد في الدرجة الأولى.

في تقارير ومقابلات وأفلام وثائقية لمخرجين إسرائيليين وأوروبيين، يروي العديد من الجنود تجاربهم ومشاهداتهم خلال المواجهات ويوميات خدمتهم العادية. اللافت أنّ هؤلاء لا يعانون فقط من آثار المواجهات التي خسروها أو أُصيبوا خلالها فقط، بل من آثار الجرائم التي ارتكبوها، أو حتى من الشعور بالخوف الدائم خلال الخدمة والحراسة والمداهمات، مما قد يدفعهم إلى فقدان صوابهم.

في فيلم "لأرى إن كنت أبتسم" (2007 ــ 59 د) To See If I'm Smiling، تروي الاسرائيلية تمارا يارون تجربة فتيات إسرائيليات خلال الخدمة العسكرية. الجيش الوحيد في العالم الذي لا يعفي الفتيات من خدمته العسكرية، يستدعيهن في سن الثامنة عشرة لعامين كاملين. أرادت المخرجة أن تضيء بشكل خاص على تجربة الأنثى مع خصوصيتها في الميدان العسكري، من خلال مقابلة الفتيات اللواتي يخدمن في الجيش الإسرائيلي المشهور بممارساته الوحشية.

في أكثر من وظيفة وأكثر من موقع، شاركت هؤلاء الفتيات في أفعال الجيش، ولو عبر السكوت عن ارتكاباته بحق الأطفال والمدنيين. إحداهن تسأل المحقق "ماذا لو لم يرم هؤلاء الأطفال الحجارة؟" فيردّ "سيعترفون". تخسر الفتيات أنوثتهنّ تدريجاً بجانب الجنود الذين يسكرون دائماً باستعراض قوتهم، إلى أن يخسرن الجانب الإنساني حين يشاركن في ارتكابات الجيش الموصوف بأكثر الجيوش وحشية. الشهادة الأقوى هي لفتاة شاركت في إخفاء آثار جراح شاب فلسطيني، قتله الإسرائيليون ببرودة، وكان عليهم إخفاء ما فعلوه قبل تسليمه جثّة لأهله. لا تكتفي هذه المجندة باللعب بالدم، بل تلتقط صورة إلى جانب الجثة، كما يفعل زملاؤها، قبل أن تطلب من صديقتها إحضار صورتها كي تتفرّج على نفسها مجدداً أثناء فعلتها.

حرب تموز 2006، كانت إحدى الحروب الأكثر تأثيراً في جنود الجيش الإسرائيلي الذين توغلوا براً في جنوب لبنان. Reporting for Duty (33 د. 2010)، لمايكل زيبرمان، يروي قصة ثلاثة شبان من ثلاث فرق عسكرية توغلّت برّاً في حرب تموز. شهادات تروي كيف تمّ حصار هؤلاء الجنود داخل بعض القرى الجنوبية من دون تمكّنهم من الإنسحاب أو التقدم، أو الحصول على إمدادات من جيشهم.

يستند الفيلم أيضاً إلى أرشيفهم الخاص والمهمّ، إذ نقلوا عبر عدسات كاميراتهم وهواتفهم مشاهد من المعارك ومن حصارهم وسيرهم في القرى التي اعتقدوا أنها خالية ومحتلة بشكل شبه كامل، إلى أن يظهر مقاتل من "حزب الله" في وجه أحد المتحدثين في الشريط ويطلق النار عليه فيصيبه ويخرجه جريحاً من أرض المعركة. كذلك، يروي آخر كيف قُتل زميله في المعركة وكيف بقي أياماً مع عناصر وحدته من دون طعام أو شراب، فيتوجه مع جنود آخرين ويطرق باب أحد المنازل التي بقيت فيه عائلة على ضوء الشمعة. وسط الدمار والقصف والمعارك، طلب الماء والطعام منها، "كنا نعلم بأنهم لا يستطيعون أن يرفضوا" لكنه فوجئ بالمرأة التي فتحت له الباب تقول من دون خوف أو قسوة "هذا ما لدي، خذ ما شئت".

To See If I'm Smilingرغم محاولة الشريطين إعادة ما فقده الجنود من حسّ إنساني، أو تبييض صفحاتهم من خلال اعترافاتهم وتصويرهم كالمعذبين النادمين، لم يستطع أي منهما إخفاء الجرائم التي يرتكبها الإحتلال بشكل يومي ممنهج يشارك فيه جميع الضباط، من دون حصره بفرقة أو بجنود أو ضباط غير منضبطين. الأهمّ أنه يصوّر المراجعة التي يقيمها هؤلاء الجنود عن فائدة القتال والتجنيد وعن مفهوم الوطن والأرض والواجب مجدداً، حيث يدركون حقيقة وواقع يناقضان كل ما تعلموه منذ طفولتهم.

في فيلم The Pain Inside (50 د. 2013) صوّرت المخرجة شارلوت برونو من لوكسمبورغ، حقيقة الهجرة المعاكسة المرّة التي يتهرب منها الإسرائيلي. هكذا يضيق الشباب الإسرائيلي ذرعاً بالأوضاع الداخلية، خصوصاً بعد تجربته العسكرية، فيعود الى أوروبا، ليختارها وطناً جديداً. هناك يتكيّف ويشعر أكثر بالأمان كما أنه يستطيع رؤية الأشياء بوضوح أكبر من بعيد، والتساؤل أيضاً عن معنى الهوية الإسرائيلية وعن معنى الدولة والواجب وعن الأسباب الحقيقية للصراع الذي لا ينته.

لم تأخذ شارلوت عيّنة صغيرة كثلاث أو أربع شخصيات كما تعتمد أغلب الأفلام التسجيلية، بل عمدت إلى العديد من المقابلات. من لوكسمبورغ، والمانيا، إلى فلسطين المحتلة، والهند، ترصد كيف يحاول بعضهم الإستقرار وإن كان لا يزال يرى اسرائيل من بعيد وطناً.

ترصد أيضاً الحالات النفسية للذين يذهبون الى الهند، هرباً من مشاكلهم، حيث يتعاطون المخدرات، ويمارسون طقوساً أخرى تستفز رجال الدين اليهود الذين يلحقون بهم إلى الهند لإعادتهم الى رشدهم. كذلك ترصد نقاشاتهم الخاصة، وشهادات بعض المحللين وبعض الناشطين ضد التجنيد والحرب. قبل نهاية الشريط، ينظر أحد الشبان إلى الكاميرا ويوجه رسالة من ألمانيا - هي للمفارقة تستقبل عدداً كبيراً ممن غادروا اسرائيل- إلى أهله يقول لهم "ماذا تفعلون هناك، إنها ليست أرضنا، الجميع من حولنا يكرهنا...".